تناولت فى مقالى السابق تصريحات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون منذ ما يزيد على الأسبوع، عن الإسلام وكيف أنه يعيش أزمة نتيجة سعى المتطرفين لفرض ثقافة ما سماه «الانعزالية الإسلامية»، وأوضحت أن الغرب هو الذى احتضن الانعزاليين، ومنحهم اللجوء والتمويل والتسليح ورفض تسليمهم لبلادهم فى حال طلبتهم للمحاكمة. وفى الوقت ذاته أوضحت أن جزءاً من الأزمة هو ما صدّرناه للعالم من مسميات عن تصنيف الإسلام منذ مئات السنين رغم تحذير الله ورسوله من التشتت والتفرّق، وأننا من منحنا الغرب عصا محاربتنا وهدمنا دنيا وديناً.
اليوم أواصل معكم طرح ملامح أزمتنا نحن لا أزمة الإسلام. فلا زلت أردّدها: الإسلام دين الله الواحد بعقائده السماوية المتتالية على رسله، اكتمل بالرسالة المحمدية التى منحت الدين تمام الدعوة بما نزل على رسل نعرفهم ورسل لم يحكِ الله لنا عنهم. فأزمتنا يا سادة التى يسعى البعض إلى طرحها عنا لتكون أزمة الإسلام تتمثل فى إصرار جزء منا على العيش فى الماضى والسير فى مضماره والتشبث بما صدر عن أشخاص عاشوا فى زمانهم واجتهدوا لظروفهم فأخطأوا وأصابوا، بينما جزء آخر منا يُصر على محاكمة هذا الماضى وسبّه والاعتداء عليه ووصفه بكل أوصاف النقص. بينما هذا الماضى لم يفعل ما فعلناه مع سلفه فأنتج المفكرين والنقاد والشُرّاح حتى فى الحقبة الزمنية الواحدة. يكفى أن ننظر إلى حال الأئمة الأربعة الذين وُلدوا وعاشوا على مدار قرنين من الزمان.
نعم أزمتنا فى وقف التفكر والتدبر فى دين الله بما يواجه عصرنا تحدياته ومعلوماته وأفكاره. أذكر أنه فى إحدى الندوات التى كانت تناقش تجديد التراث، ذكرت واقعة تعديل الفاروق عمر بن الخطاب حكم المؤلفة قلوبهم، ولم يكن مضى على وفاة النبى سوى عدة أعوام، فقال لى الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر الأسبق، رحمه الله، هذا عمر ولن يأتى مثل عمر! فأجبته إذاً فليجلس المشايخ فى بيوتهم إن لم يستطيعوا التدبّر فى دين الله، ولتواصلوا العجز فى إقناع المتطرّفين بسماحة الدين وإقناع الملحدين بعمق الدين، فسكت ولم يرد.
ودعونى أضرب لكم أمثلة لأزمتنا: ما زال المشايخ يحدثوننا عن إباحة ضرب المرأة، ويفسرون ذلك بتفسير لفظى للقرآن يناسب مفهوم البداوة، رافضين الاعتراف بالمعنى الحقيقى للكلمة. ما زال المشايخ يتحفّظون على تولى المرأة القضاء ويُضعفون من واقعة تولية الفاروق عمر أمر الحسبة المالية ومراقبة الأسواق للشفاء بنت عبدالله التى عيّنها لمراقبة تجار السوق ومنع غشهم لبضائعهم ومنح الحقوق لمن يستحقها، بينما لا يتجاوز عدد قاضياتنا منذ 2003 -تاريخ تعيين المستشارة تهانى الجبالى كنائب لرئيس المحكمة الدستورية- 66 قاضية!!
ما زال البعض يحدثنا عن عمل المرأة ومشروعيته وذمتها المالية، بينما كانت الشفاء بنت عبدالله أول معلمة فى تاريخ الإسلام لإجادتها الكتابة، وهى السابقة للإسلام والمهاجرة مع الأوائل للحبشة، طبيبة المسلمين فى مدينتهم وحروبهم. ما زال البعض يفسر لنا ويقتطع حديث ناقصات عقل ودين من سياقه، ليثبت لذاته المريضة نقص المرأة وتوالى مكانتها على الرجل دون أن يتوقف أمام تناقض تفسيره مع حديث النبى صلوات ربى وعليه بأخذ نصف الدين عن أم المؤمنين عائشة! إذ كيف نأخذ ديننا منها إن كانت من النساء ناقصات العقل والدين؟! ما زال مشايخنا يحدثوننا فى قتل المرتد، بينما عارضه «ابن الخطاب» حينما قرر الصديق حروب الردة بمنطق لا إجبار فى الدين، بينما منطق الصديق فرض هيبة الدولة. وبينما كان توعّد الله لمن يرتد بأن يأتى بقوم يحبهم ويحبونه. ما زال مشايخنا حيارى فى حديث أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله... الذى حُذف من كتب الأزهر حتى لا يثير البلبلة -على حد قول عباس شومان فى 2015- بينما هو حديث يُشرع به المتطرفون قتل الإنسانية بهتاناً، لتعارضه مع كلام الله فى حرية الإيمان.
يا سادة، الإسلام لا يعيش أزمة، بل نحن أزمة الإسلام، وسنظل ما استمر صراعنا حول ماضٍ يقدسه البعض ويرفض نقده، وينبذه البعض فيرفض الاعتراف به! بينما نجاتنا فى إعمال العقل وتدبر الضمير للفهم.