لن أنسى أبداً حكاية شاب صغير من قريتى فى محافظة الدقهلية، كان ساهراً قبل 3 أعوام مع أصدقائه فى مكان ما بالقرية، وجاءت سيرة «حبة الغلة» التى تكرر استخدامها فى وقائع انتحار عديدة، وانتشرت شهرتها كأسرع طريقة للانتحار الفورى فى الوادى والدلتا.. ولا أحد يعرف كيف وصل الأمر بين الشاب الصغير ورفاقه إلى الرهان على أنه سيضع «الحبة» فوق لسانه للحظة خاطفة مقابل 20 جنيهاً سيدفعها أحد أصدقائه، إذا لم يتأثر بها صحياً.
وقد حدث الرهان فعلاً، وضع الشاب الحبة على لسانه وكسب العشرين جنيهاً، وتفرق الرفاق كلٌ إلى بيته، وما هى إلا ساعات حتى اندلع الصراخ فى منزل الشاب، صراخه وصراخ والدته وشقيقاته، فقد بدأ الألم يعتصره، وأصابته حالة تشنج رهيبة، وحتى عندما تصلبت أطرافه وفقد الإحساس تماماً بذراعيه وساقيه، وغاب إدراكه بكل من حوله، ظل جسمه يرتجّ وكأن زلزالاً داخلياً يمزق أحشاءه.
لم تكن الأم تعرف شيئاً عن السبب الذى دمر ابنها أمام عينيها، وعندما حملوه إلى أقرب مستشفى وقف عدة أطباء فى البدء حائرين أمام هذا الوحش الخرافى الذى يمزق إنساناً تحت أعينهم، وهم عاجزون تماماً عن تشخيص الحالة حتى يقترحوا الإسعاف المناسب، ولكن أحد الأطباء خطر له فجأة أن يسأل عما إذا كان هذا الشاب قد تناول «حبة الغلة».. وجاءته الإجابة من زملائه الذين لحقوا به إلى المستشفى: لقد لحسها فقط يا دكتور!.
آنذاك، جاءتنى عدة اتصالات من القرية، تطالبنى بالتدخل الفورى لإنقاذ الشاب، وعندما اتصلت فعلاً بطبيب كبير فى المستشفى، أخبرنى أنه لا يوجد دواء يمكنه إنقاذه، وأن أقصى تصرف هو حقنه بأقوى المسكنات لتخفيف الألم الرهيب حتى يلقى المصاب وجه ربه.. ويومها أيضاً قال لى الطبيب إنهم يستقبلون يومياً حالة انتحار بحبة الغلة، ولم يحدث أبداً أن نجا أحد من الموت خلال ساعات، باستثناء شاب وحيد أصيب بشلل رباعى وعاش لمدة 6 شهور على جهاز تنفس صناعى ثم توفاه الله.
بعد ذلك أكد لى عدد من الأطباء الذين تصادف استقبالهم لحالات الانتحار بحبة الغلة، أن أقصى أمانيهم أن يموت المريض فوراً، لأن الألم الناجم عن تناول هذه الحبة والتشنجات المصاحبة له لا مثيل لها على الإطلاق فى أى مرض آخر، وحتى عندما يدخل المريض فى غيبوبة كاملة، يظل جسده يرتج وكأنه سمكة حية يتم شيها على النار.. وفى هذه الساعات الرهيبة يتعرض الطبيب لأقسى تجارب عمره، فهو يعلم يقيناً أنه لا توجد قوة على الأرض، ولا يوجد دواء ولا تدخل جراحى، يمكنه إنقاذ المريض أو تخفيف آلامه المروعة.. وفى الوقت نفسه يطارده أهل المريض ويحاصرونه بالاستغاثات واللعنات وأحياناً بالضرب لأنهم يتصورون دائماً أن هناك تقصيراً أو إهمالاً تسبب فى وفاة المريض.
ولأننى من قرية لم تتوقف منذ مئات السنين عن زراعة القمح، وتخزينه وطحنه وخبزه، فقد أدهشتنى فى البدء حكاية حبة الغلة القاتلة التى يستخدمها الفلاحون والتجار وأصحاب صوامع الغلال، فى حفظ القمح من السوس والحشرات والفطريات أثناء تخزينه، فلم يسبق لى أن سمعت أبداً عن أحد من أهلى أو أقاربى استخدم شيئاً قاتلاً إلى هذا الحد فى حفظ القمح. وما زلت أتذكر أدق تفاصيل حصاد القمح وتخزينه فى صوامع طينية مصنوعة من الطمى والقش، وأتذكر كيف كنا نصنع المادة العضوية صديقة البيئة التى نستخدمها فى حفظ القمح من التسوس أو الإصابات الفطرية، وهى عبارة عن الرماد المتخلف من حرق قش الأرز أو حطب الذرة والقطن، وكان الفلاحون وربات البيوت يمتلكون خبرات متوارثة عن فاعلية هذا الرماد العضوى فى حفظ القمح، وقد اتضح لى أن قدماء المصريين هم أول من اكتشف فاعلية رماد المواد العضوية فى حفظ القمح والأرز والفول والعدس فى حالات التخزين لشهور وربما لسنوات عديدة.
ما الذى حدث إذن حتى يترك المصريون هذه الطريقة الآمنة فى حفظ الحبوب.. ويعتمدوا على حبة شديدة السمية فى حفظ طعامهم؟!
إنه التطور المشوه الذى أخذ فى طريقه كل مظاهر حياتنا الماضية فى الريف المصرى.. فقد حلَّت براميل الصاج أو الزنك محل الصوامع الطينية، وتحولت أفران الخبيز الطينية التى تعمل بالوقود الحيوى والمخلفات الزراعية العضوية، إلى أفران صاج موصولة بأنابيب البوتاجاز، ومع استخدام البراميل فى تخزين الحبوب نشأت الحاجة إلى مادة كيميائية لاستخدامها فى مقاومة الآفات التى تفسد الحبوب أثناء تخزينها، وكان أن سمع تاجر مبيدات عن حبة شديدة السمية تنتجها الهند، تم منعها من التداول أو الاستخدام فى أوكرانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، بعد اكتشاف أنها السبب فى الوفيات الغامضة بين العاملين فى صوامع تخزين القمح، وقد اتضح أن مجرد لمسها باليد ثم وضع اليد على الوجه، يؤدى إلى أعراض شديدة الخطورة تنتهى بالوفاة أحياناً.
وخلال سنوات قليلة، حصل التاجر المصرى على موافقة لجنة تسجيل المبيدات بوزارة الزراعة، باستيراد هذه الحبة التى تتكون من فوسفيد الزنك مخلوطاً بألومنيوم فوسفيد، وهى تباع منذ عام 2010 تقريباً فى محلات البقالة والمبيدات بكل قرى مصر، ومؤخراً انتقل استخدامها من الوادى والدلتا لحفظ القمح والفول من التسوس، إلى المناطق الصحراوية التى تستخدمها فى تعقيم النباتات العطرية مثل الكراوية والينسون، ثم وصلت أخيراً إلى الوادى الجديد والمحافظات الساحلية لاستخدامها فى حفظ التمور من التسوس!
ومؤخراً انتبه بعض أعضاء مجلس النواب إلى الخطورة الفادحة لهذه الحبة القاتلة، التى يذهب ضحيتها مئات الشباب سنوياً، بسبب سهولة الحصول عليها ورخص ثمنها «الحبة بـ6 جنيهات فقط»، وعلاقة ارتفاع حالات الانتحار بحبة الغلال، بسهولة الحصول عليها ورخص ثمنها، تم رصدها فى تصريحات عديدة لبعض المسئولين، من بينهم رئيسة مركز السموم بطب الإسكندرية التى قالت لجريدة «الوطن» عام 2019، إن مركز الإسكندرية يستقبل سنوياً حوالى 200 حالة انتحار بحبة الغلة من محافظة البحيرة وحدها، ويستقبل حالتين فقط سنوياً من محافظة الإسكندرية!.
إنه الأمر الذى عرفته بنفسى من مركز سموم كلية الطب بجامعة القاهرة، فهو يستقبل يومياً حالة أو حالتين من ضحايا حبة الغلة، وكلهم يعيشون فى قرى الجيزة التى تستخدم هذه الحبة فى حفظ المحاصيل الزراعية أو التمور، ويمكن لأى إنسان يعانى من ظروف قهرية ويفكر فى الانتحار أن يحصل عليها بسهولة شديدة من عشرات المحلات والدكاكين التى تبيعها دون أدنى اشتراطات، ويكتفى بائعوها -مثل المستورد- بتحذير طالبيها من أنها شديدة السمية وممنوع لمسها مباشرة باليد.
لقد طالب عدد من نواب البرلمان بمنع استيراد هذه الحبة وتجريم تداولها، ولكن ما زال لدينا أشخاص يدافعون عن استيرادها بحجة أنه لا يوجد بديل آخر لحفظ الغلال من التسوس والإصابات الفطرية.. والحقيقة أن هذا الكلام لا أساس له من الصحة على الإطلاق، فدولة مثل فرنسا تخزن سنوياً أكثر من 50 مليون طن قمح تستخدم لتعقيمها وحفظها طرقاً آمنة صديقة للبيئة، وكذلك تفعل أوكرانيا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ولا تكاد توجد دولة فى العالم تستخدم هذه المادة القاتلة غير مصر التى تُنتج سنوياً حوالى 9 ملايين طن قمح وتستورد حوالى 12 مليون طن يتم تخزينها فى براميل أهلية، وفى صوامع حكومية عملاقة.. وأخشى ما أخشاه أن يكون هذا الحجم من الإنتاج والاستيراد، مضافاً إليه حاصلات عديدة أخرى، هو «مغارة على بابا» لتاجر واحد أو أكثر، ولعدة مسئولين يدافعون عن استخدام هذه الحبة فى حفظ الغلال والحبوب.. على اعتبار أن الذين يفكرون فى الانتحار، سينتحرن بالحبة أو بغيرها إذا لم يجدوها!.
والمثير للحزن والفجيعة أن هذا المنطق وجد طريقه إلى لجنة الزراعة بمجلس النواب، فى جلسة السبت الماضى، حيث علق أمين لجنة المبيدات بوزارة الزراعة على مطالب النواب بحظر استيراد هذه المادة، بقوله: «إن تلك الأقراص لا بديل مناسب لها فى تخزين الغلال.. وهناك عدد من الضوابط لاستخدامها وتداولها»، وعقَّب النائب هشام الحصرى رئيس لجنة الزراعة بقوله: «إن وقف استيراد هذه الأقراص لن يحل الأزمة، وخصوصاً أنه لا بديل لها كما ذكر ممثل وزارة الزراعة، وأنه لن يمنع مَن يريد الانتحار».. ثم أضاف «الحصرى»: «اللى عاوز ينتحر هينتحر.. ممكن يطلع يرمى نفسه من الدور العاشر»!.
وهذا المنطق تطيح به فوراً وتنسفه من الأساس، مئات ملايين الأطنان من القمح والحبوب والتمور التى يتم إنتاجها وتخزينها حول العالم سنوياً، ولا تدخل هذه المادة إطلاقاً فى حفظها، بل يُعد استخدامها جريمة جنائية، بعد أن ثبت يقيناً أنها كانت سبباً فى آلاف الوفيات الغامضة بين عمال صوامع تخزين الغلال فى العديد من دول العالم.
فهل نفيق وننقذ أرواحاً شابة من الهلاك بهذه السهولة؟.. وهل تصحو الأجهزة الرقابية إلى أن هناك طرقاً عديدة آمنة لحفظ الغلال، ولكن التربح الفاحش والإجرامى هو السبب الوحيد حتى الآن لهذا الادعاء بأنه لا يوجد لها بديل مناسب؟!.