وفقاً للبعثة الأمريكية لدى حلف شمال الأطلنطى، فمن المقرر أن تجرى أكبر مناورات للحلف فى منطقة القطب الشمالى فى ربيع العام الحالى 2022، وستحمل اسم «الرد البارد» Cold Response، ويشارك فى المناورات 350 ألف عسكرى من 28 دولة، بالإضافة إلى حاملة الطائرات الأمريكية (هارى إس ترومان).
فما الذى يحدث فى هذه المنطقة البعيدة من العالم، وهل تتحول لبؤرة تنافس إلى حد الصدام، كما نشهد فى بحر الصين الجنوبى، وشرق أوروبا؟، أم أنها تحافظ على صور من التنسيق الدولى، كما كانت طوال عقد كامل بعد انتهاء الحرب الباردة؟.
نظرياً، هناك آفاق للتعاون والتنسيق. فمن أجل إدارة المنطقة، تم إنشاء مجلس المنطقة القطبية الشمالية، عام 1996 بأوتاوا بكندا. وهو خاص بتسوية المنازعات الإقليمية، ويضم كلاً من روسيا، والولايات المتحدة، وكندا، والدنمارك، وفنلندا، والنرويج، والسويد، وأيسلندا، فضلاً عن منظمات تمثل السكان الأصليين فى القطب الشمالى و13 دولة بصفة مراقب من بينها الصين.
وعملياً، تشهد منطقة القطب الشمالى حالياً تنافساً دولياً كبيراً بين القوى الكبرى سعياً للتفرد بهذا الفضاء الجيواستراتيجى، كمجال جديد للمصالح الاقتصادية، هذا فى ظل الفرص التى نتجت عن التغيرات المناخية كظاهرة الاحتباس الحرارى.
لقد فقد المحيط الشمالى المتجمد نصف مساحته المغطاة بالجليد، مما جعل الوصول إليه، والاستفادة من ثرواته وممراته أمراً سهلاً. وتتعدد أبعاد المنافسة الدولية فى المنطقة ما بين البعد الجيوسياسى، وما يرتبط به من تطورات عسكرية، وأمن الطاقة وأمن الموارد، وبين بعد الاقتصاد السياسى، وأخيراً الأمن الغذائى.
تعد الصين لاعباً أقل وضوحاً فى القطب الشمالى، حيث تبعد أقرب أراضيها 8 آلاف كيلومتر بحراً عن مضيق بيرينج، الذى يمثل نقطة وصل بين كل من بحر بيرينج مع المحيط المتجمد الشمالى. ولقد سعت الصين إلى أداء دور أكبر فى شئون القطب الشمالى، وباتت واحدة من 13 دولة مراقبة فى مجلس القطب الشمالى منذ عام 2013. وتمتلك الصين محطة خاصة بالبحوث فى الأرخبيل النرويجى سفالبارد، وهى أكبر مساهم أجنبى فى مشاريع روسيا للغاز الطبيعى المسال فى القطب الشمالى، وسوف تعتمد على الشحنات المارة عبر مسار البحر الشمالى للتصدير.
فى عام 2018، أدخلت الصين «طريق الحرير القطبى»، كأحد مكونات مبادرة الحزام والطريق، بوصفه إطاراً للتعاون مع أطراف أخرى فى سبيل تطوير مشترك لطرق الشحن فى القطب الشمالى. كما أصدرت الصين كتاباً أبيض بعنوان: «سياسة القطب الشمالى الصينية»، لتحدد أولوياتها فى المنطقة، واعتبرت نفسها دولة «شبه قطبية»، وتسعى لجعل القطب الشمالى واحداً من المناطق التى تحاول من خلاله بناء نفوذها وتحسين صورتها، بوصفها قوة عالمية.
وعلى مستوى آخر، تمثل منطقة القطب الشمالى رهاناً جيوسياسياً جديداً فى العلاقات الأمريكية الروسية، لما للمنطقة من أهمية استراتيجية بسبب موقعها الجغرافى من ناحية، واحتوائها ثروات هائلة تقدر بتريليونات الدولارات، تستخدم فور ذوبان متسارع للثلج من ناحية أخرى.
وقد زاد اهتمام روسيا بالمنطقة عقب تسلم الرئيس فلاديمير بوتين الحكم عام 2000، حيث تعد منطقة القطب الشمالى «أحد أعمدة استعادة روسيا مكانة القوى العظمى».
وكانت مسألة مشاركة الناتو الشاملة فى القطب الشمالى موضع جدل عالمى كبير، وقد أعربت روسيا عن معارضتها لفكرة أن يصبح الناتو أكثر انخراطاً فى القطب الشمالى.
لكن مع تجدد المنافسة بين القوى العظمى، أصبح حلف الناتو يركز أكثر على كيفية ردع الحروب الروسية المحتملة ضد دول الحلف، بما فى ذلك القطب الشمالى، ولاسيما مع اندلاع الحرب الأوكرانية، واحتمالات المواجهة بين الناتو وروسيا. ونتيجة لذلك، عادت النرويج والناطق البحرية المجاورة لها مرة أخرى تلقى مزيداً من الاهتمام فى تخطيط الحلف.
على سبيل المثال، أجرى الناتو تدريبات «ترايدنت جانكشر 18» بمشاركة 31 دولة من الأعضاء والحلفاء، والتى وصفت بأنها الأكبر للحلف حتى تلك النقطة منذ الحرب الباردة.
كما أن هناك تحركات عسكرية كبيرة فى القطب الشمالى، بما فى ذلك أول نشر لحاملة طائرات تابعة للبحرية الأمريكية فوق الدائرة القطبية الشمالية منذ عام 1991.
يضاف إلى ذلك التحرك العسكرى الأمريكى من خلال إرسال قاذفات استراتيجية تابعة للقوات الجوية الأمريكية إلى النرويج بهدف إجراء تدريبات عسكرية، وهو ما يعكس تأكيداً على عزم الولايات المتحدة الدفاع عن حلفائها فى المنطقة القطبية ضد روسيا.
وهكذا، فإن القطب الشمالى سيغدو فى الأعوام القليلة المقبلة مسرحاً مهماً للمنافسة العالمية، على حركة المرور والموارد الطبيعية. وهو ما يتم فى ظل ضعف التشريعات الدولية المتعلقة بهذه المنطقة، بسبب ما تعانيه من فجوات كبيرة، مما يدفع بالدول إلى زيادة وجودها العسكرى للردع، على حساب القانون الدولى.
قبل حرب أوكرانيا، كانت المنطقة القطبية الشمالية فى صدارة التنافس العالمى، وبعد نشوب الحرب زادت الأهمية الاستراتيجية لتلك المنطقة من العالم.
لم يعد القطب الشمالى بعيداً كما كان، بل صار ساحة خطيرة للصراع، سواء على صعيد الاقتصاد أو على صعيد السلاح.