ونحن نتعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية على أى مستوى، يجب أن نكون على حذر وبينة، وألا نفرط فى الثقة بها مهما كان الكلام معسولاً والوعود براقة.. لا بد أن ننظر فيما وراء الأحداث، ونقرأ جيداً ما بين السطور، وأن نأخذ الدروس والعظات والعبر من التاريخ القديم والحديث، على السواء.. فقد أثبتت الأيام والتجارب أن الولايات المتحدة لها مشروعها ومصالحها، الطامحة والطامعة فى تفتيت المنطقة، وتركيع الأمة، والسيطرة على مواردها وثرواتها، والقضاء على خصوصيتها الثقافية، وطمس معالم تراثها الحضارى.. هذا فضلاً عن ضمان أمن وأمان «إسرائيل» وما يتطلبه ذلك من قوة وتفوق ساحق على كل ما حولها، إضافة إلى عدم عرقلة توسعاتها الاستيطانية فى الأرض المحتلة.. وهى فى سبيل ذلك تتبع كل الوسائل والأساليب الظاهرة والمستترة، والمخالفة للأعراف والقوانين الدولية، بل والإنسانية.. لا ننسى تآمرها فى استدراج «صدام» لغزو الكويت، وتجميع قوى «التحالف» لتحريرها فيما سمى بـ«عاصفة الصحراء»، سعياً نحو إتمام السيطرة على منابع النفط، وتحويل الصراع العربى/ الإسرائيلى إلى صراع عربى/ عربى.. ثم كان غزو أفغانستان، ومسئوليتها فى إنشاء «القاعدة»، وما تلى ذلك من سيطرة «طالبان»، وانتشار ما عُرف بعد ذلك بالأفغان العرب.. بعدها كان احتلال العراق وتفكيك كل مؤسساته، وتمكين الشيعة من السيطرة على الحكم، لتبدأ مرحلة جديدة من الحرب المذهبية والفتن الطائفية والعرقية، وإعداد المسرح لظهور «الزرقاوى» ثم «البغدادى» وتنظيم «داعش» لتسقط المنطقة العربية -والعالم- فى براثن الإرهاب..
(٢) فى عام ٢٠٠٥، وأنا بمقر المركز العام للإخوان بالروضة، القاهرة، فوجئت بأحد الإخوة القريبين من الإخوان، أو ممن يعتبرون أنفسهم من الإخوان، يطلب مقابلتى على عجل.. كان هذا الأخ يأتينى بين حين وآخر ويتحدث معى فى أمور تخص الدعوة، وقد ترك لدى انطباعاً من خلال اللقاءات القليلة أنه لم يكن فطناً بالقدر الذى يجعلنى أتبسط معه فى الحديث.. فى تلك المرة، جاءنى وأسرَّ إلىَّ بأن هناك شخصية مصرية، هو يثق فيها ويقدرها ويحترمها، ترغب فى مقابلتى.. ولما سألته عن السبب الداعى للقاء، قال إن هذه الشخصية تحمل رسالة إلىَّ، مفادها أن الإدارة الأمريكية حريصة على إحداث إصلاح ديمقراطى فى مصر (!)، وأن نظام «مبارك» ليس لديه الاستعداد لذلك، وأن الإخوان يمكن أن يكون لهم دور أساسى.. وتقترح الإدارة الأمريكية لذلك سيناريو يتضمن ٥ خطوات؛ هى: أولاً: يقوم الإخوان بعمل تظاهرات كبرى على مستوى مصر كلها فى وقت واحد، ثانياً: على أثر ذلك، سوف يقوم «مبارك» باعتقال الآلاف أو عشرات الآلاف منهم، ثالثاً: حينذاك، تتدخل الإدارة الأمريكية لإزاحة «مبارك» عن سدة الحكم، رابعاً: تقوم بتنصيب الدكتور عزيز صدقى رئيساً مؤقتاً لمصر، لحين إجراء انتخابات رئاسية، على اعتبار أن «صدقى» من الشخصيات التى تنادى بالإصلاح الديمقراطى، والتى لها قبول لدى كل ألوان الطيف السياسى، وخامساً: أن يتم الإفراج عن الإخوان المعتقلين..
(٣) وقد اشترطت الإدارة الأمريكية فى مقابل هذا السيناريو شروطاً ثلاثة: أ- ضمان وصول المرأة للمناصب العليا فى الدولة، ب- ضمان كافة حقوق المواطنة الكاملة للأخوة المسيحيين و«غيرهم»، ج- ضمان أمن وأمان «إسرائيل».. بعد أن استمعت ملياً، قلت للأخ حامل الرسالة: البندان الأول والثانى لا يمثلان مشكلة على الإطلاق.. ويبدو أنهما سيقا كغطاء للبند الثالث.. وعموماً، أبلغ هذه الشخصية أن الإخوان يريدون إصلاحاً سياسياً مؤسساً على فكر وسواعد أبناء مصر، وأنهم لا يثقون فى الإدارة الأمريكية التى لا تبحث إلا عن مصالحها ومصالح العدو الصهيونى.. ثم أردفت قائلاً: أرجو أن يكون واضحاً أن الأمر مرفوض.. جدير بالذكر، أنه حدثت بعد ذلك محاولة فى عام ٢٠٠٩، عن طريق شخص قريب لأحد الإخوان العاملين بمقر المركز العام.. هذا الشخص مصرى، متجنس بالجنسية الأمريكية، عضو فى الحزب الديمقراطى الأمريكى، وكان ضمن حملة «أوباما» فى انتخابات الرئاسة الأمريكية.. لم يكن هنا عرض سوى محاولة إيجاد نوع من التعاون مع «أوباما» بشأن القضية الفلسطينية وعملية السلام، فى مقابل مساحة ما من الحريات للإخوان.. ولم يكن هناك رد منى سوى ما قلته عام ٢٠٠٥.. والسؤال هو: هل كانت هناك محاولات أخرى من الإدارة الأمريكية مع قيادات إخوانية غيرى؟ ربما.. وهل استمرت هذه المحاولات بعد ثورة ٢٥ يناير؟
(٤) فى كتابه (سر المعبد)، يذكر ثروت الخرباوى لقاءً تم بينه وبين أحد أعضاء مكتب الإرشاد من الإخوة الكبار من أصحاب التاريخ (على حد قوله)، والذى توثقت علاقته به من خلال قضية أسندها له أحد أقاربه، وكيف أن هذا العضو عبر له عن مخاوفه من أن تنقلب الجماعة إلى وجهة أخرى لم تكن فى حسبان من أنشأوا الجماعة.. يقول «الخرباوى» إنه ذهب إليه فى بيته فى أحد الأيام الأخيرة من عام ٢٠٠٥، وكان ذلك بناء على موعد مضروب بينهما، وفى هذا اليوم رآه مختلفاً عن السابق.. كان ثائراً مهتاج المشاعر ساخطاً.. وبعد عبارات الترحيب، دار بينهما الحوار التالى:
عضو المكتب: الجماعة بدأت تسير فى هذه الأيام ناحية طريق خطير. «الخرباوى» (متعجباً): كيف؟ عضو المكتب: علاقتنا بأمريكا أخذت فى التطور، بيننا الآن مراسلات واتفاقات. «الخرباوى»: هذا شىء طيب فى رأيى، فأنتم فى أمسّ الحاجة إلى من يخفف عنكم الضغوط الأمنية التى تمارس عليكم. عضو المكتب: ولكن الاتفاقات تتجه ناحية تيسير طريقنا نحو الحكم.. أمريكا ترغب فى أشياء تريدها منا ونحن نريد منها أشياء، وما تريده منا يخالف الثوابت التى دافعنا عنها لسنوات. «الخرباوى»: ومن منكم يتفاوض مع أمريكا؟ عضو المكتب: خيرت الشاطر وعصام العريان، وأحياناً هناك أشخاص بعينهم يقومون بمهام محددة. «الخرباوى»: وكيف تسكت على هذا الأمر؟ وكيف يسكت الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح والدكتور محمد حبيب؟ عضو المكتب: هذه المعلومات متكتّم عليها جداً حتى إنها لا تصل إلينا ولا نناقشها فى مكتب الإرشاد، وإنما يقوم بها «الشاطر» من وراء ظهورنا، وقد وصلت لى من خلال بعضهم رسالة كانت مرسلة من أحد الإخوان المسئولين فى أمريكا إلى خيرت الشاطر بها بعض المعلومات الخطيرة، وهم يطلقون على خيرت BIG، أى الرئيس أو الكبير أو المهم، لذلك كان الخطاب موجهاً إلى B.. أخذ «الخرباوى» الخطاب، وفى بيته بدأ فى قراءته.. فماذا وجد؟ موعدنا فى الأسبوع المقبل إن شاء الله.