عام 2007 كان الكاتب الصحفى «أحمد جودة» قد عاد من سنوات عمله فى لندن وبقى فى مصر لفترة، ترأس فيها تحرير جريدة «التجمع» السكندرية، التى أسسها المناضل الراحل «أبوالعز الحريرى».. كان «جودة» من أوائل من نشروا لى مقالات، بل وكان يتصيدها من المواقع الإلكترونية لينشرها فى جريدته الورقية.. بعدها قرر أن يخوض غمار تجربة جديدة فى الكويت، وتواصل معى وطلب منى أن أكون معه.. لم نلتقِ أبداً وكنا نتواصل دوماً عبر الهاتف أو البريد الإلكترونى.. فى الأسبوع الأخير من شهر مايو من العام المذكور، كان من المقرر عقد لقائنا الأول خلال أيام معدودات، كنت أستمع إلى أم كلثوم وهى تشدو قائلة: «ياما كنت أتمنى أقابلك بابتسامة، أو بنظرة حب، أو كلمة ملامة». حين تلقيت اتصالاً هاتفياً أخبرنى بأن الأستاذ جودة قد غادر دنيانا فجأة إثر حادث سيارة بالفيوم.. مات الرجل وبينى وبينه ميعاد لم يتم، ونقاش لم ينتهِ.
مرت السنوات، وجرت مياه كثيرة، وتمكن المواطن الأمريكى الشاب «مارك زوكربيرج» من ابتكار موقع للتواصل الاجتماعى يسمى «فيس بوك»، مما مكننا من استرجاع ذكريات قديمة.. جمعتنى صداقة إلكترونية بالصديق «على جودة»، شقيق الراحل «أحمد جودة»، وكان مثل أخيه مثالاً للرقى فى التعامل والبساطة، وكان رقيق القلب دائم التشجيع والثناء.
صباح الجمعة الماضى أصيب الصديق «على جودة» بذبحة صدرية تطورت إلى جلطة بقلبه الطيب، نقله أهله بسرعة إلى مستشفى أبشواى المركزى بمحافظة الفيوم (وهو يخدم مئات الآلاف من البشر).. لم يكن بالمستشفى أى أدوات طبية بما فى ذلك «السرنجات»! أما الطبيب الذى كان موجوداً فقد تعامل مع المريض وأهله بغاية الاستخفاف، وحين طلب منه الأهل أن يقوم حتى بإجراء الإسعافات الأولية، قال لهم بكل تعالٍ: (I Do not Care)، أى (أنا غير مهتم)، وهذا الطبيب كما نعلم مثقف وجميل ويتحدث اللغات. شخص تناسى القانون الوضعى والأعراف الإنسانية والأخلاق البشرية وحتى قَسَم أبوقراط! هذا التصرف فى بعض الدول يُعد شروعاً فى قتل، أو حتى قتلاً عمداً، فقد توفى «على جودة» بالفعل خلال دقائق.. صارع الرجل الموت بشجاعة لنحو خمس دقائق، ثم نطق الشهادتين وغادر عالماً قاسياً «غير مهتم».
عن هذه الواقعة يقول الشقيق الثالث الباقى من عائلة «جودة»، السيد «عمرو جودة»، وهو بالمناسبة زميل صحفى: «لا أطلب الآن أى موقف شخصى، فقد تقبلت أنا وأسرتى قضاء الله وقدره، ولكنى لا أريد لأى أنسان أن يمر بهذه التجربة، ويرى عزيزاً عليه يموت بين يديه، لعدم وجود «سرنجة»، لا يمكن أن يكون الإنسان رخيصاً لهذه الدرجة».
بالصحافة المصرية موضوعات صحفية كثيرة عن الإهمال واللاآدمية بمستشفى أبشواى العام بالفيوم (أقدم ما وجدته يعود لعام 1991، أى منذ 27 عاماً)، والآن ينضم هذا المقال إلى هذه الموضوعات عن المستشفى صانع الأرامل والأيتام.. فى انتظار من يتحرك أو من يكتب عنه مرة جديدة بعد 27 عاماً أخرى.