منتدى شباب العالم عودة بعد طول غياب، وتوال بعد طول انقطاع، واعتراف بوجود الشباب بعد طول إنكار، وموضوعات على الطاولة تُطرح بعد طول إهمال وتجاهل، وفئات وجنسيات توضع فى دائرة الضوء بعد طول تظاهر بأن كله على ما يرام، رغم أن كله كان «كوم سى كوم سا».
«كوم سى كوم سا» أو نصف نصف التى كنا نعيش فيها ونتظاهر بها كشفت وجهها القبيح فى مثل هذه الأيام قبل تسعة أعوام. فعاليات وتصريحات وقرارات وإجراءات وصورة لامعة براقة كانت الدولة تضعها نصب عينيها وفى وجوه ملايين المواطنين. البعض اعتاد الصورة، والبعض الآخر تواءم معها على اعتبار أن ليس فى الإمكان تغيير الأوضاع. فريق ثالث ظل متمسكاً بآمال التعديل والتغيير، وفريق رابع هرع إلى الصيد فى المياه العكرة، وكلنا يعلم ما جرى فى يناير 2011 وما تلاها من سنوات. لكن السنوات القليلة الماضية تشير إلى رؤية ومعرفة بما يجول فى دواخل المجتمع. دواخل المجتمع التى يسيطر عليها عددياً صغار السن تجد نفسها محور منتدى شاب قبل أن يشيب. نحو 20 مليون شاب وشابة فى مصر تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً بنسبة 21 فى المائة من مجموع المصريين. والنسبة الأكبر من هؤلاء تتركز فى القاهرة والجيزة والشرقية، والنسبة الأقل فى المحافظات الحدودية!! هذه القوة الضاربة تعانى فى العقد الثالث من الألفية الثالثة من مشكلات جديرة بالألفية الثانية لا الثالثة، زواج مبكر جداً (21 فى المائة من الفتيات يتزوجن قبل سن الـ19)، تسرب من المدارس الابتدائية والإعدادية (17 فى المائة من الشباب لم يلتحقوا بالتعليم من الأصل)، كثرة إنجاب فى سن صغيرة اقتداءً بالأهل الذين أنجبوهم لضخهم فى سوق عمالة الأطفال، نسب طلاق مرتفعة بسبب الجهل بمعنى الأسرة وقيمته، والقائمة طويلة. طول القائمة لا يضاهيه إلا طول قائمة محتويات محور الشباب فى فكر النظام السياسى والاقتصادى والاجتماعى للدولة. ملايين الوحدات السكنية المخصصة لسكان المناطق العشوائية والشباب التى يجرى بناؤها، والتى جعلت البعض يتساءل عن جدوى كثرتها، هى عين اهتمام بالشباب. إحدى أبجديات حقوق الإنسان تكمن فى مسكن آدمى وبيئة تحترم إنسانيته. وملايين الشباب الذين نراهم اليوم ونتعجب من سلوكياتهم وتركيبتهم التى تبدو لنا خارجة عن الأعراف وضاربة عرض الحائط بقواعد الأخلاق وقوانين الحياة هم نتاج سكن غير آدمى (ضمن عوامل أخرى كثيرة ظلت تنهش فى بنيان مصر على مدى عقود). وبرامج الرعاية الصحية سواء الكشف عن فيروس سى وعلاجه، والتنبه إلى خطر الانتكاسة وعمل برامج علاج المنتكسين، وقوافل الكشف على صحة الإبصار والتقزم والأنيميا وغيرها من البرامج التى شهدت لها المؤسسات الصحية العالمية قبل المحلية حقناً للتشكيك، لبنة أخرى فى إعادة بناء الشباب المصرى، ونضيف إلى ذلك جهود تطوير التعليم رغم ما تواجهها من مقاومة شديدة تصل إلى حد الصلف والعناد ورفض فهم ما يجرى من «صنفرة» لعقود من التلقين والحفظ ودس سموم التطرف ورفض الآخر وكراهيته فى عسل التعليم الدينى.
وعودة إلى منتدى شباب العالم فى نسخته الثالثة، التى تستهل فعالياتها اليوم (السبت) ورسالة واضحة وصريحة تشير إلى إرادة سياسية لمواجهة الظلام والانغلاق اللذين تغلغلا فى المجتمع المصرى على مدار عقود مضت، وحين يكون العنوان «ملتقى الحضارات» فإن هذا يعنى توافر نية لإعادة فتح الباب المغلق. الباب المغلق الذى أدى إلى انتشار الفكر المتطرف المريض الذى ترعرع وتوغل فى بيئة صناعية قوامها الإبقاء على الجهل، والحفاظ على الضحالة، وتشويه كل ما لا يشبهنا، ووصم الآخر بالكفر، والترويج للعنف الفكرى والجسدى باعتبارهما جهاداً ودفاعاً عن الدين، هذا الباب يحتاج جهوداً ثقافية وفكرية وتعليمية لسنوات طويلة حتى يعاد فتحه. وفتح أبواب المنتدى على مصاريعها لاستقبال آلاف الشباب القادم من عشرات الدول التى لا تشبهنا بالضرورة أو تعتنق ما نعتنقه أو تفخر بتاريخ يتطابق وتاريخنا هو عين الصواب، ويكفى الحضور الأفريقى القوى والمؤثر فينا وفى بقية دول قارتنا لتعويض ما فات من ضعف تواصل وقلة اتصال. ولأن حضور كل شباب مصر مثل هذه الفعاليات أمر مستحيل، فإن متابعتها إعلامياً وعنكبوتياً أمر مطلوب ومحمود، لكن علينا أن نتذكر كذلك الإحصاءات السابق ذكرها من ملايين من شباب مصر ممن وقعوا ضحايا الأمية والجهل والزواج المبكر والعشوائية، هؤلاء علينا أن ندرجهم فى فعاليات مشابهة ومناسبة لظروفهم وذات محتوى موائم لهم.
العمل مع الشباب ومن أجلهم يدور بشكل ووتيرة غير مسبوقين، ومثلما اجتهدت الدولة وأحسنت فى توفير البنية التحتية الصحية والسكنية لملايين ظلمتها عقود من الجمود السياسى والتطرف الدينى والظلم المجتمعى، علينا جميعاً أن نساهم فى توفير بنية نفسية وسلوكية وثقافية تنقذ ما يمكن إنقاذه لتلك الملايين الأخرى.