بعيداً عن مشاهد تطغى عليها الغوغائية فى تبادل التصريحات بين طهران وواشنطن، أو فى لقطات عزاء ودفن جثمان قاسم سليمانى فى العراق وإيران، يبقى مشهد اغتيال قائد سرايا القدس التابع للحرس الثورى الإيرانى بحاجة للتأمل فى محاولة لفهم أبعاد تلك الحادثة التى حتماً ستؤثر على المنطقة، ولكن السؤال هو: كيف سيتم ذلك؟
فقاسم السليمانى من أهم الأذرع العسكرية لنظام حكم الملالى فى طهران ومحرك العديد من المنظمات والميليشيات المسلحة فى اليمن والعراق ولبنان وسوريا وغزة، لم يجئ اغتياله محض مصادفة، أو بقرار متسرع من القيادة الأمريكية التى تدار بفكر المؤسسات المتابع للحدث والمخطط له والدارس لنتائجه، ولكنه جاء وفق رؤية تدرك رد الفعل فى ظل علاقة قديمة بين الإدارتين تحدثت عنها الكثير من الوثائق والمؤلفات، فإيران الملالى ورغم ما يبدو على السطح، قريبة من صانع القرار الأمريكى، بل يمكننا القول إنها صانعة ألعاب لهذا النظام منذ مجىء «الخومينى» فى عام 1979. من هنا يمكن السؤال مجدداً: مَن المستفيد من تلك الحادثة؟
لعل أول المستفيدين من تلك العملية إيران نفسها التى تواجه مظاهرات داخلية مدفوعة بتردى الوضع الاقتصادى ضد نظام الملالى منذ عدة أشهر، قُتل فيها ما يزيد على 1500 متظاهر وفقاً للتصريحات الإيرانية ذاتها، كما تواجه موجة عداء شديدة ضدها فى مناطق نفوذها فى العراق ولبنان منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر، حينما اندلعت المظاهرات حتى من الشيعة فى كلا البلدين. وهو ما تراجع إلى حد ما بعد تلك الحادثة، وبخاصة فى العراق الذى شهد مقتل «سليمانى»، لتخرج المظاهرات المطالبة بالثأر له ورفض الانتهاكات الأمريكية لما سمّاه المتظاهرون بالسيادة العراقية! ولا أعرف عن أى سيادة يتحدثون والعراق محتل من قبل واشنطن منذ عام 2003؟ نعم تواجه أمريكا إيران، ولكن إلى حد ما.
تأتى الولايات المتحدة كمستفيد ثانٍ فى المشهد، فهى بحاجة لإثبات حسن نيتها لحلفائها فى الخليج وأنها تمارس حمايتها لهم مقابل ما يدفعونه لها، ربما نتذكر مبلغ 396 مليار دولار التى حصل عليها «ترامب» فى مايو 2017 أثناء انعقاد ما عُرف باسم القمة الإسلامية العربية الأمريكية بالرياض، فمنذ ذلك التاريخ والحديث لا ينقطع عن مواجهة إيران وكبح تمدد نفوذها فى محطات بارزة. منها إعلان أمريكا انسحابها من الاتفاق النووى 5+1 مع إيران الموقع فى يونيو 2015، ومنها أزمة تصريحات رئيس وزراء لبنان سعد الحريرى ضد إيران من السعودية فى نوفمبر 2017، ثم الحصار الاقتصادى لحزب الله اللبنانى المدعوم من إيران والمصنف من واشنطن كمنظمة إرهابية منذ 1997، انتهاءً باستدعاء بعض القطع العسكرية الأمريكية الضخمة بدعوى حماية الخليج من هجمات إيران بعد الهجوم الغامض على شركة أرامكو السعودية مؤخراً رغم وجود القواعد العسكرية الأمريكية والأسطول السابع الأمريكى وصواريخ باتريوت فى الخليج؟!!
كما اعتبرت أمريكا مطالبات بعض الكتل العراقية السياسية انسحابها من العراق مزحة فنفت أى تصريحات حول هذا الأمر وأعلنت عن إنشاء مطار عسكرى داخل قاعدة عين الأسد بالعراق للطائرات B52 الضخمة. وأضف لكل ما سبق ارتفاع أسعار البترول واقترابها من حاجز 70 دولاراً لخام برينت، وإلى 64 دولاراً للبترول الصخرى الأمريكى عقب اغتيال قاسم سليمانى.
وبعيداً عن التهديدات المتبادلة بين الطرفين، فإن أمريكا تهدد بضرب 52 هدفاً إيرانياً فى إشارة لعدد الرهائن الأمريكيين بعد ثورة «الخومينى»، وإيران ترد برقم 292 فى إشارة إلى الطائرة المدنية التى ضربتها القوات الأمريكية فوق الخليج فى عام 1988، يبقى المتضرر الوحيد من تلك الأزمة هو دول الخليج والمنطقة التى يبدو أنه كُتب عليها الحرب والصراع إلى أجل غير مسمى.