ذكرياتي يا ذكرياتي
لا يمكنني ما حييت أن أنسى سنوات الجامعة الأولى وما تخللتها من ذكريات، وكان أكثر ما يلحّ على ذاكرتي، شاب وسيم بنظارة شمسية أنيقة وملابس عصرية راقية، قامته لافتة وابتسامته جذابة ووجهه الأسمر يشع بريقًا دائمًا.
وعدت بذاكرتي للوراء وأنا أقف بين الفتيات أراقبه من بعيد وهو يلاطف هذا ويداعب ذاك ويطلق ضحكته العالية التي كان يتميّز بها عن بقيّة الضحكات، وعلى الرغم من شهرته الواسعة وصيته الذائع في الجامعة وأصدقائه الكثيرين كان يترك كل هؤلاء ويتخطاهم ليقف أمامي مبتسمًا بإشراقة ويسألني عن حالي ثم يكسر حدة الخجل بداخلي فينطلق في أحاديث جانبية كثيرة لا يتصنعها فهي تخرج منه بتلقائية بالغة تتخللها ضحكات عالية وقفشات ودعابات ترفع عني الحرج تمامًا وتجعلني أبتسم وأضحك، بل وأنفرط في الضحك.
وظل هذا الشاب الوسيم الجذاب من أصدقاء الجامعة الذين لا أنساهم أبدًا، وكانت نظرات الإعجاب في عينيه تزيدني فرحة وثقة بالنفس، ومرّت سنوات الجامعة سريعة وبدون أن أشعر ذهب كل منا لحال سبيله، ولكنني لم أنسَ وجهه أبدًا ولم تغادرني ابتسامته، كما كنت أتذكره في كل مواقف حياتي.
وتغيّر كل شيء فتزوجت وأنجبت وانخرطت في حياة جديدة أنستني كل شيء، فلم أعد أذكر حتى اسمي ولكنني لا أنكر، فقد كنت أذكره كلما رأيت فيلمًا رومانسيًا أو شاهدت شابًا وسيمًا في الشارع، كان يخطر ببالي لحظة فأبتسم رغمًا عني، ومرّت السنوات طويلة حتى حدث لي طارئ جعلني أحتاج لشهادة الجامعة الأصلية وكانت بحوزتي شهادة مؤقتة، ومن فرط انشغالي بأمور الحياة لم أكلّف خاطري عناء الذهاب لإحضارها كبقيّة الزملاء، واضطررت للذهاب وكنت مستاءة أشد الاستياء وأنا أفكر في أولادي وكيف سأتركهم وتبعات كل هذا.
وبينما كنت أدخل من باب الجامعة أخذت أتطلّع بدهشة لمبانيها القديمة وطرازها المحفور بذاكرتي واستعدت كل الذكريات، فهنا كنا نقف وهناك كنا نضحك، وفي هذا المكان تحديدًا كنا نجتمع وبينما أخطو نحو الإدارة سمعت صوتا يناديني وتصورت أنني أعرفه والتفتّ فوجدت رجلًا غريب الهيئة يرتدي نظارة شمسية ويبتسم، فتعجبت وتلفتّ حولي فلم أجد غيري، وخاصة أنه كان يناديني باسمي مجردًا فانقلبت دهشتي غيظًا وأنا أحدّث نفسي بأنها سماجة، رجل لا يعرفني ويناديني بدون ألقاب، واقترب فإذا به بصلعة واضحة ولحية غير مهذبة وملابس عجيبة وبنطلون بحزام مرفوع يكاد يصل لزوره، واقترب أكثر وعلامات الاستفهام عندي تزداد، حتى صافحني بحرارة وهو يقول بابتسامة بالكاد عرفتها من وسط اللحية: "أنا وائل يا حنان.. انتي نسيتيني والا إيه؟" تجمّدت الكلمات على شفتيّ وأنا لا أكاد أصدّق نفسي.. وائل!.. الشاب الوسيم الذي توقفت عنده كل أحلامي وقد أصبح بصلعة تنير في الشمس، ووسط ولا وسط البلد وملابس تذكرني بالآباء الفاضلين، تلعثمت وابتسم هو بثقة عجيبة وهو يقول مزكيًا نفسه: "مفاجأة مش كدة.. سبحان الله أنا جاي بالصدفة البحتة، وانتي واضح إنك جاية على ميعاد" وضحك ضحكة سمجة وأنا أضرب أخماسًا في أسداس، وبدأ يحكي عن مشوار حياته الموفق السعيد بفرحة وإعجاب بالنفس منقطعي النظير وأنا أستعرض وسط كلماته شريط ذكرياتي وأمزقه على أنغام كلماته قطعة قطعة، وتمنيت لو توقف عن الكلام حتى وجدته يسألني بلؤم عن حالي فقلت له باقتضاب وأنا أنظر لساعتي علامة على ضيق الوقت: "اتجوزت طبعًا وجوزي دكتور كبير وعنده مستشفى، وجبت ولدين وبنت، وباحضّر للدراسات العليا وعندي أتيليه باعرض فيه شغلي" وقفلت باب المناقشة عند هذا الحد وتركته غير آسفة عليه وتركت معه ذكرياتي لأبدأ بدونها ما تبقى من حياتي، وعدت لمنزلنا طائرة كالعصفور فرأيت زوجي يستعد للذهاب لعيادته وقد ارتدى ملابسه الأنيقة ووضع عطره المميز فأسرعت بخفة ألفّ حوله وأدور فتعجب ونظر إليّ بشك قائلًا: "إيه؟.. مالك؟.. أول مرة تشوفيني" فقلت له وأنا أبتسم بإعجاب حقيقي: "اعتبرها أول مرة.. بس كنت عايزه أقولك.. انت النهارده زي القمر"، ابتسم وقبّل جبيني وهزّ كتفه وتركني ضاحكًا وهو لا يعرف ما الذي حدث لي وربما ظن للوهلة الأولى أنني فقدت عقلي.