بعد غياب ليس بالقصير يعود فاروق القاضى فيهدينا كتاباً هاماً يأتى فى وقته تماماً. فنحن الآن، وفى عهد ترامب، نعيش فى عصر اللعب على المكشوف، وهو لعب لا تردعه إلا القوة التى تحبط جبروته بجبروت مضاد. نحن فى زمان صاح فيه «ترامب»: «أفكر فى قصف كوريا الشمالية»، فجاءه الرد حاسماً: «سنشعلها ناراً كاسحة تحت أقدامكم»، فتراجع، وقال متحدثه الرسمى: «الآن نحن لا نفكر فى أية ضربة ضد كوريا الشمالية». وعنوان الكتاب الذى بين أيدينا: «راعى البقر خليفة القرصان.. اللعب على المكشوف»، (دار العين، 2017). وفاروق القاضى مفكر وسياسى ومناضل مصرى قضى سنوات فى قلب قيادة الثورة الفلسطينية باسم حركى هو «أحمد الأزهرى»، والكتاب 385 صفحة من القطع الكبير، يمتلك القارئ ليمضى عبر تاريخ مصر كله من البدايات الأولى لالتقائها مع الإسلام وحتى مواجهتها للقوى ذات الأضلع الثلاثة: «الإخوان وزعانفها» (التأسلم)، بريطانيا (القرصان)، وراعى البقر (الأمريكى).
وفى بداية مقدمته يقول المؤلف: يقول ابن زولاق نقلاً عن ابن إياس: ذكر الله مصر فى القرآن فى ثمانية وعشرين موضعاً، وقيل بل أكثر من ثلاثين كتابة أو تصريحاً.. مثل «إن فرعون علا فى الأرض» (ص12). ويقول الكندى فى (الولاة والقضاة وتسمية ولاة مصر): لا نعرف بلداً فى أقطار العالم أثنى عليه سبحانه وتعالى فى القرآن غير مصر، وقد عاش شعب مصر دوماً وعبر حضارته الثرية فى ظل تعددية للديانات، حيث عاشت فى أرضه حالة من التآخى ورفض التعصب وعاش متسامحاً مع مكوناته الثلاثة (الإسلام، المسيحية، اليهودية)، تسامحاً مكّنه من أن يتغاضى عما غص به العهد القديم مثلاً من تحريض مفزع ضد مصر وشعبها نموذج مثلاً «قال الرب لموسى قل لهارون خذ عصاك ومد يدك على مياه المصريين، وعلى أنهارهم وسواقيهم، وكل تجمعات مياههم لتصير دماً فيكون دم فى كل أرض مصر» (العهد القديم، الإصحاح الثامن، سفر الخروج)، وفى الإصحاح العاشر أن حام (أحد أبناء نوح) أجاب جده على لسان أحد أبنائه فباركه الرب ووضع يده على رأس مصرايم قائلاً: «اللهم بارك فيه وفى ذريته وأسكنه الأرض المباركة التى هى أم البلاد وغوث العباد ونهرها أفضل أنهار الدنيا واجعل منها أفضل البركة»، (راجع ابن عبدالحكم فى كتابه الولاة والقضاة)، وأول من سكن مصر بعد الطوفان مصرايم بن حام بن نوح وبه سميت مصر، ومصرايم هو أبوالقبط (ص 16).
ولا يحاول المؤلف أن يثبت صحة هذه الأقوال، لكنه يفسر طبيعة الميراث الفكرى والمعتقدى عند المصريين جميعاً، ويمضى بنا ليسرد تاريخ مصر وتاريخ شعبها الموحد وفقهائها المجددين، وقضاتها المصممين على إقامة العدل فى مواجهة ظلم الحكام حتى تتواصل مقدمة كتابه الممتدة عبر 65 صفحة لتصل إلى أول حاكم لمصر عشقه فاروق القاضى «محمد على باشا» الذى تولى حكم مصر عبر شروط أملتها جموع من المصريين بلغ عددهم عندما احتشدوا أمام بيت قاضى القضاة أربعين ألفاً وعبّر عنها شيوخهم الممثلون فيما سموه مجلس الشرع. وهذه الشروط تقول: ألا تفرض ضريبة إلا إذا أقرها العلماء وكبار الأعيان، أن تجلوا الجنود عن القاهرة وتنتقل حاميتها إلى الجيزة، ألا يُسمح بدخول أى جندى إلى المحروسة (القاهرة) حاملاً سلاحه، وكان ذلك يوم 13 مايو 1805. وهنا يتوقف المؤلف ليحذرنا من أن نتصور أنه يلفق صورة تتوافق مع حاضر أيامنا التى أتت بمحمد على بانى نهضة مصر الحديثة.. ليمهد لرؤية ربما مع عبدالناصر الذى تيّمه حبه فتجاوز عند أخطائه، وربما لرؤية أكثر قرباً فى تاريخها (30 يونيو، 3 يوليو، السيسى) يتوقف فاروق القاضى قائلاً: «لا يظن أحد أننى أخلط أمس باليوم، إنما هى كلمات مؤرخين كبار، فقد وصفها الجبرتى منذ قرنين من الزمان، وعبدالرحمن الرافعى منذ قرابة تسعين عاماً عندما قال: (كان 13 مايو 1805 -يوم تولى محمد على- من الأيام المعدودة فى تاريخ الحركة القومية، ففيه تم انقلاب عظيم فى نظام الحكم، وفيه وضعت مصر لنفسها أساس حريتها واستقلالها وأعلنت حقها فى تقرير مصيرها، لكن هذه المرة كان الانقلاب شعبياً، فوقع بإرادة الشعب وقوة الشعب)، (الرافعى: تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر، الجزء الثانى، ص 338). أما الجبرتى فقد قدم الدرس الأكثر فائدة فى كتابه (عجائب الآثار فى التراجم والأخبار) عندما نقل عن محضر تولية محمد على وشروط الشعب التى أملاها مجلس الشرع وتولى تحريره الشيخ محمد المهدى عبارة حاسمة ومثيرة للدهشة تقول: إن للشعوب كما جرى العرف قديماً، وكما تقضى به أحكام الشريعة الإسلامية الحق فى أن يقيموا الولاة، ولهم أن يعزلوهم إن انحرفوا عن سنّة العدل وساروا بالظلم لأن الحكام الظالمين خارجون عن الشريعة». لكن فاروق القاضى يأبى إلا أن يكشف أوراقه جميعاً فيقول مؤكداً موقفاً صحيحاً ويدين الأصابع العابثة بمصالح الوطن، فكما أدانها عبر ملفات وكتب التاريخ يدينها اليوم قائلاً: «كان محمد على من العسكر الذين يهتف أعداء الوطن اليوم بسقوطهم». ومحمد على العسكرى لم يستطع أن يبنى الدولة الحديثة إلا بعد أن هزم الإنجليز وحلفاءهم من المماليك فى موقعة رشيد (مارس 1803)، ويضيف ليؤكد نظريته: «ركز محمد على جهده فى بناء مؤسسات الدولة، فيكون أول من حقق الاستقلال القومى فى دولة مصر الحديثة. لكن عبقرية المكان أبت إلا أن يلتزم جند مصر بالقضاء على المتاجرين بالدين» (ص51)، ثم هو يعود كعادته ليوثق كل سطر بمراجع موثوقة، فينقل عن كتاب «مشاهد العيان بحوادث سوريا ولبنان» للدكتور مشارقة وكتاب خطط الشام لمحمد كرد على اللذين أكدا أن إبراهيم باشا قام بترتيب المجالس المدنية والعسكرية ومعاملة الرعايا بالمساواة والعدل دون تمييز بين الطوائف والأعراق فأفسد مساعى القرصان الإنجليزى لتمزيق المنطقة. ونواصل مع فاروق القاضى عن مؤامرات الثالوث المتأسلم (جماعة الإخوان)، القرصان (الإنجليز) راعى البقر (أمريكا).