هل تصدق أن نصوص التراث تناولت موضوع «السطو على الآثار»؟. حدث ذلك بالفعل، فقد قدمت هذه النصوص اعترافاً بفكرة «الآثار»، حين ربطتها بالأدوات التى استخدمها النبى صلى الله عليه وسلم، وتطرقت بعد ذلك إلى سرد العديد من المشاهدات على عمليات استيلاء مؤسس على آثار الشعوب الأخرى التى فتحها المسلمون، ونظرت إلى هذه الآثار كـ«غنيمة حرب» فى بعض الأحوال، ثم خطت النصوص خطوة أكبر، حين قدمت مبررات شرعية تتيح للفرد المسلم الاستيلاء على ما تكتنزه الأرض والخزائن من كنوز الأمم السابقة، وخصوصاً أمة المصريين، وجعلت ذلك حقاً للفرد، وتوسع الأفراد أكثر وأكثر فى الأمر، فلم يكتفوا باحتجاج كتب التراث فى مقام تبرير حق الفرد فى السطو على الآثار، بأحاديث نسبوها إلى النبى صلى الله عليه وسلم، واتجهوا إلى تأويل بعض آيات الذكر الحكيم، واتكأوا عليها فى تبرير بحثهم الدائب عن الدفائن، وأصبحت فكرة «البحث عن الخبيئة» جزءاً من ثقافة البعض. حدث ذلك فى مصر المحروسة.
المتصفح لكتاب «البداية والنهاية» لـ«ابن كثير» يلاحظ وجود معلومة لافتة تتعلق بوجود صورة للنبى صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الصورة كانت بحوزة النصارى، يعرضونها فى أحد أديرتهم. ينقل «ابن كثير» حديثاً تكثر عنعناته ليصل به فى الأخير إلى واحد من أعلام الصحابة وهو «جبير بن مطعم»، يقول فيه: «لما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وظهر أمره بمكة، خرجت إلى الشام، فلما كنت ببصرى أتتنى جماعة من النصارى فقالوا لى: أمن الحرام أنت؟. قلت نعم. قالوا: فتعرف هذا الذى تنبأ فيكم؟. قلت: نعم. قال: فأخذوا بيدى فأدخلونى ديراً لهم فيه تماثيل وصور، فقالوا لى: انظر هل ترى صورة هذا النبى الذى بعث فيكم!، فنظرت فلم أر صورته، قلت: لا أرى صورته فأدخلونى ديراً أكبر من ذلك الدير، فإذا فيه تماثيل وصور أكثر مما فى ذلك الدير فقالوا لى: انظر هل ترى صورته؟. فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصورته، وإذا أنا بصفة أبى بكر وصورته وهو آخذ بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لى: هل ترى صفته؟. قلت: نعم. قالوا: هو هذا، وأشاروا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: اللهم نعم أشهد أنه هو، قالوا: أتعرف هذا الذى آخذ بعقبه؟. قلت نعم، قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم، وأن هذا الخليفة من بعده». أحال «ابن كثير» القارئ بعد ذلك إلى كتابه فى تفسير القرآن الكريم، فى الجزء المتعلق بتفسير الآية الكريمة من سورة «الأعراف» التى تقول: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ».
تكاد هذه القصة تنطق بعدم الدقة، ويصح أن يكون «ابن كثير» قد لجأ إليها -مثل غيره من كتَّاب السيرة- بهدف البرهنة على أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثابتة فى كل من التوراة والإنجيل، ولدى علماء اليهود والنصارى، وهناك قصص عديدة فى كتب السيرة، تمنحك هذا المعنى، وتقول إن اليهود والنصارى كانوا يعلمون بنبوة محمد، قبل وبعد مولده صلى الله عليه وسلم. وتبين القصة شغف كتاب السيرة والتراث بالاعتساف فى حكى الوقائع وسرد الأحداث لتفسير هذه الآية القرآنية أو تلك. فقصة الصورة تبدو غير مقنعة فى سياق تفسير «ابن كثير» للآية الكريمة التى تنص على أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان «مكتوباً» وليس «مصوراً أو ممثلاً» لدى أهل الكتاب، وبالتالى لم يكن «ابن كثير» بحاجة إلى هذا التعسف لإضفاء معنى على الآية، ليس متحققاً فيها بالأصالة.