الأمم الحية العريقة تستحق أن يكون لديها مستقبل، ومن الممكن ضمان ذلك فقط عبر استيعاب دروس الماضى وتفادى أخطائه.
يصعب جداً أن تصنع أمة مستقبلها وتجترح مكانتها دون أن تقرأ ماضيها جيداً، وتستوعب دروس التاريخ، وتحترمها، وفى المقابل ثمة ما يمكن أن نجده فى نهاية كل مشروع سياسى واعد، كما لو كان قاسماً مشتركاً أعظم، إنه ببساطة: الوقوع المتكرر فى الأخطاء ذاتها.
فى مثل تلك الأيام قبل 52 عاماً، كانت القوات المصرية فى اليمن، والتى بلغ عددها آنذاك ما بين 50 إلى 70 ألف مقاتل، تستعد للمغادرة من ذلك البلد الصعب، بعد أكثر من خمس سنوات من القتال الشرس والخسائر الكبيرة، إثر اتفاق سياسى، عُقد على هامش هزيمة عام 1967 الكارثية.
لقد بدأ التدخل المصرى فى اليمن آنذاك، فى عام 1962، بداعى نصرة «الثورة» و«إقامة الجمهورية»، ضد تحالف الملكية اليمنية، وطبيعة اليمن الوعرة والشائكة، وتقليديته التى تتحول سياجاً من الضعف والحماية فى آن.
الدرس الذى يمكن حساب تكاليفه الآن كان مباشراً وواضحاً: أرسلت مصر سرية واحدة إلى اليمن، إثر اعتقاد بأن الحرب هناك ستكون سهلة، وأن النصر سريع وفى الإمكان، لكن تلك السرية ما لبثت أن ساخت أقدامها فى رمال الجبال الصعبة، ولم تنجز المطلوب، ما اقتضى إرسال أفواج أخرى من المعدات والمقاتلين، الذين بلغ عددهم عشرات الآلاف.
كانت تلك «فيتنام مصر»، كما سمّاها المؤرخون، لكن المخاوف من أن يكون اليمن نسخة من فيتنام، التى أعجزت الولايات المتحدة، ومرغت أنفها فى التراب، لم تجد آذاناً تنصت فى الجلسة التمهيدية التى عقدها الرئيس عبدالناصر مع أركان حكمه للإعداد لدخول الحرب.
لقد كان هناك سياسيون بارزون وقادة عسكريون مهمون يحذرون من التدخل عسكرياً فى اليمن، لكن أحداً لم يهتم، وبدلاً من أن تتم دراسة تلك الآراء، تم إبعاد قائليها، واتهامهم بالتخاذل.
لم يكن هذا هو الدرس الوحيد الذى بقى لنا، فثمة درس آخر يتعلق بالوحدة مع سوريا، وهى وحدة عقدت على عجل، مدفوعة بمشاعر رومانسية قومية، ومد شعبى طاغ، لم يؤمن لها الاستمرار أكثر من ثلاث سنوات (1958- 1961)، لكى تتحول ندبة سوداء فى تاريخ العلاقات العربية وفى سجل مصر الناصرية، بعدما أخفقت فى الاستمرار فى غيبة الأسس الموضوعية والترتيب المؤسسى اللازم لإدامتها وصيانتها.
ثمة درس ثالث لا يمكن نسيانه، إذ اندلعت الحرب بين إسرائيل من جانب، ومصر والأردن والفلسطينيين وسوريا من جانب آخر، فى عام 1967، لتنجح الدولة العبرية فى تحقيق انتصار ساحق، واحتلال أراض عربية ما زال بعضها فى حوزتها حتى اليوم دون أفق واضح لاستردادها.
حين اندلعت الحرب آنذاك، كان الإعلام المصرى يريد أن يلعب دور أداة الدعاية المخلصة للنظام، التى ترفع الروح المعنوية للقوات النظامية وللجمهور، وتقنع المواطنين والعرب والعالم بأن القوات المصرية تبلى بلاء حسناً.
وفى ظل الاندفاع الإعلامى، وبمواكبة فورة المشاعر الوطنية والقومية، راحت وسائل الإعلام الجماهيرية، تنقل عن بيانات رسمية أن وسائل الدفاع الجوى الوطنية تسقط عشرات المقاتلات الإسرائيلية المغيرة، وتحقق الانتصارات ضد «العدو الصهيونى».
لم يستمر الأمر على هذا النحو سوى يومين، قبل أن يبدأ الجمهور فى معرفة الحقائق عبر الأخبار الحية التى ترد من الجبهة، ووسائل الإعلام الأجنبية التى تيسر التقاط بثها آنذاك.
وبموازاة الصدمة التى انتابت الجماهير، خرج الزعيم «عبدالناصر» ليقر بالهزيمة، ويعلن تحمله المسئولية عنها، ويقرر التنحى عن الحكم، قبل أن تخرج الجماهير لاحقاً لترفض تنحيه، وتطالبه بالاستمرار فى الحكم، وصولاً إلى «إزالة آثار العدوان».
لا يمكن القول إن النخبة السياسية المصرية لم تتعلم من تلك الدروس، بل كان هناك ما يوضح دائماً أنه تم إدراك الأبعاد الاستراتيجية لتلك الأخطاء، إذ تم التحسب لبعضها على نحو واضح.
سنعلم لاحقاً أن مصر أدارت حرب أكتوبر 1973 بدرجة أكبر من الاحترافية والرشد، وأنها وضعت لنفسها أهدافاً من الحرب يمكن تحقيقها، ويمكن قياس نتائجها، وأنها رافقت ذلك بإدارة اتصالية أكثر وعياً وتحفظاً.
وسندرك أيضاً أن مصر وعت درس «الوحدة المتعجلة» مع سوريا، وراحت تحافظ على سياسة محافظة فى مشروعات الوحدة اللاحقة، وحافظت على خطوط محددة للاندماج وأسقف واقعية للأحلام، بحيث كان الإعلان عن فشل تلك المشروعات الوحدوية غير مأساوى ومؤثر كذلك الذى حدث فى ملف الوحدة مع سوريا.
امتلك الرئيس «عبدالناصر» مشروعاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً متكاملاً، وقد منح مصر، مرحلياً، مكانتها المستحقة، وغيّر التركيبة الاجتماعية فى البلاد، وجعل من التعليم مشروعاً للصعود الاجتماعى، وعزز وجود طبقة وسطى قادرة ومؤثرة، عبر إنجازات عديدة مبهرة، لكنه رغم كل ذلك أخطأ أخطاء استراتيجية كلفتنا الكثير.
من بين أبرز الأخطاء التى وقع فيها نظام عبدالناصر أنه سعى إلى تأميم الإعلام وتقييد الحياة الفكرية والثقافية، ورغم اختراقات مشهودة وإبداعات وإنجازات تحققت على هذه الصعد فى أجواء الخمسينات والستينات الفائتة، فإنه قبل أن تكون مصر دولة للصوت الواحد، وعزز هذا الميل، عبر سياسات وإجراءات لا يمكن إنكارها.
لقد سعى «عبدالناصر» عقب الهزيمة القاسية فى 1967 إلى إحداث مراجعة شاملة لخطه السياسى والاقتصادى والإعلامى، وبينت محاضر اجتماعات مجلس الوزراء التى عقدت فى هذه الأثناء نزعة واضحة لدى الرئيس لتخطى أسباب الهزيمة، ومن بين أبرز ما حدث فى أعقاب ذلك تلك المسحة من الحرية وقبول التباين، التى هيمنت على سنواته الثلاث التى أمضاها لاحقاً فى السلطة.
هل استخلصنا من الهزيمة القاسية ما يتوجب استخلاصه من دروس وعبر؟
ربما نجحنا فى عدد من المجالات، لكن يبقى أن نعرف أن ملامح الهزيمة كانت بادية لولا أن كبتها الحس التعبوى ونزعة الموالاة الطاغية.
كنا فى حاجة إلى نقاش عمومى مسئول، نعرف من خلاله تقييمات موضوعية لنتائج أعمالنا، ونتداول فى شأنها، ونترك المساحات الكافية لكل صاحب مصلحة أو وجهة نظر لكى يعبر عن مواقفه، طالما أن هذا يحدث تحت سقف القانون والدستور، ووفق مبادئ الوطنية التى تجمعنا.