هوي المصايف
تحضرني هذه الأغنية القديمة التي تربينا عليها ونحن صغار وأنا أجمع أشلائي وأحضّر أغراضي وملابس البحر لأولادي ولسان حالي يردد " باهواك يا هوى المصايف ... باهواك وأنا قلبي خايف ... أجيلك السنة دي تجرحنى حد عارف".
وعن جراح المصايف بالنسبة لي تحديدًا فحدث ولا حرج، فإن كانت المصايف بالنسبة للبشر العاديين مرح وانتعاش وضحك ولعب وجد وحب، فالمصايف بالنسبة لي عبارة عن أشغال شاقة مؤبدة، فالكل يذهب ليستمتع وأذهب لأعمل بلا هوادة، وكأن المصيف جاء كعقد عمل مفتوح، غير مدفوع الأجر، لحين يقرر القائمون عليه الإفراج عني بكفالة.
هذا ما دار برأسي وأنا أسمع زوجي يلقي بفرمانه السنوي بكل ثقة وحزم قائلًا:" بابا وماما سبقونا على شقة العصافرة، ولازم نحصلهم" وعندما أسمع هذا الفرمان أربط رأسي من الخضة، واستعد ليصبح كله: "ضرب ضرب ضرب، ومفيش شتيمة".
نعم ابدأ في تحضير الحقائب وأنا أعلم مصيرها المحتوم، فلا "دواليب" و لا "يحزنون" ، وأجهّز المحمر والمشمر وكأننا نعدّ مائدتنا للغداء ولمدة عام كامل، هذا غير التسالي والـ"كوتشينة" والشطرنج والطاولة، بينما أتخيل حالي وزوجي يجلس مع أسرته يلعب بحماسة ويهتف بفرحة لا تضاهيها فرحة، قائلا بملء فيه: "كِشّ ملك" والعساكر يتساقطون واحدًا تلو الآخر، بينما أنا بين تحمير وترتيب وتجهيز الساندويتشات والحلويات والأكواب من الشاي والقهوة والنسكافيه والحلبة الحصى والـ"موغات".
أخته المصون حامل في شهرها التاسع، وتريد رعاية خاصة، وبالطبع لن تقوى على الخدمة أو الوقوف في المطبخ، وهي تمسك بالمروحة الخوص، وتهفّ بها قرب وجهها وتهتف بقرف شديد واستياء : "مش قادرة اقوم يا محمود رجلي بتوجعني ... هاكل وادخل أنام شوية .. حاسة إني هاولد النهاردة ".
والتفت حولي فأجدني المسؤولة الوحيدة عن إعداد هذه الموائد الممتدة وزوجي يهمس في أذني قائلا بشهامة منقطعة النظير: "ماما رجليها بتوجعها وماتقدرش تقف أنتِ عارفة ... وبابا بيحب الحواوشي قوي متنسيش تجهزيه من النهاردة ... أماني أختي مبتحبش ريحة التحمير ابقي اقفلي باب المطبخ عليكي ... ومتنسيش أخويا رضا ومراته جايين بالليل وعايزيين نستقبلهم استقبال كويس ... على فكرة الولاد هيرجعوا من البحر ميتين من الجوع وعايزين ياكلوا بسرعة ... انتي اتأخرتي قوي".
ولأنني أتشوي في نار جهنم من الصباح وحتى ما بعد الظهيرة، فأجد وجهي شديد الاحتقان وعيناي تكادان تخرجان من محجريهما، والكل منخرط في الخارج في حديث لا ينقطع، وتتعالى الضحكات والأصوات وأنا أحاول جاهدة أن أنتهي من هذه المعركة الحربية في أسرع وقت ممكن لآخذ "دُشًا" باردًا، وبدلًا منه أجدني أثناء تناول الغداء آخذ "دُشا" آخر، ولكنه ساخنًا وتتوالى التعليقات وأنا أطالب زوجي وحماي بتركيب تكييف ليرحمني من هذه الـ"سونة" بعد أن انفجر الدم من وجهي وكأنه بركان :" وليه نركّب تكييف؟.. الجو حلو جدًا ... بصي الشباك دا .. نعيم لوحده .. ما تعقّل مراتك يا محمود ... يا بنتي احنا أولى بالمصاريف دي ... الشقة دي بحري والناس متحلمش بربعها ....البطر وحش ... عندك المروحة أهي شغالة ليل نهار ... حد كان طفاها".
ولأنني الوحيدة المكوية بنار الفرن، فأنا الوحيدة التي تشعر بالصهد ولا ترى بصيصا من النور ولا تشعر بأي نسمة هواء ... وبدون كلمة شكر واحدة نبدأ في لملمة السفرة ويضعها الجميع بسلامة الله في الحوض ليبدأ موال جديد من غسيل المواعين وأنا أترحم على مواعين البيت التي كانت على أقل تقدير تخدم أسرة واحدة فقط ولا تجري كما تجري الآن على العديد من الأسر
وتأتي زوجة أخيه وكلي أمل في أن تزداد الأيدي العاملة في المصيف، فإذا بها تزيد من الأعباء، فالهانم لا تخدم إلا نفسها وأسرتها فقط وتقريبًا جاءت مجبرة، وتريد أن تعلّم الجميع الأدب والفضيلة وعلى رأسهم أنا .. وبينما أخذت في آخر اليوم "دُشا" باردا، وجلست متهالكة أمام النافذة البحري التي لا تخرج منها نسمة هواء واحدة حتى وجدت زوجي يقف أمامي على أهبة الاستعداد والكل في حالة نشاط وبهجة وانشراح وهم مرتدين أفخر ما لديهم من ثياب، وهو يقول لي بثقة بالغة، قالبًا عينيه " يالّلا استعدي عشان نخرج نتمشى سوا على الكورنيش ونشم هوا البحر وناكل ذرة مشوي .... قومي ياللا البسي حاجة كويسة ومتكسفيناش"، فنظرت للجمع الغفير المبتسم استعدادًا للخروج الكبير وحوُلت نظري بعدها لقدمي المتورمتين ثم رفعت عيناي لأنظر للجميع بغيظ لم استطع اخفاءه وهتفت من أعماق قلبي وملء حنجرتي :" هادهن رجلي وارفعهم شوية وهآخد حبيتين للصداع وحباية الضغط وهاحطّ قطرة في عيني وادهن وشي وايديا بكريم الحروق وهاشرب لمون يهدي أعصابي وأهوي شعري شوية عشان فطس من الحر، وهاحطّ نقط في مناخيري عشان الجيوب الأنفية وهاليّن ركبي عشان اتيبسوا من الوقفة وأوعدك بعد كل دا لو بقيت كويسة هاحصلكوا"
ونظرًا للحرج الشديد الذي وقع فيه زوجي أسرع يهتف بأهله قائلا وكأن شيئًا لم يكن:"ياللا يا جماعة عايزين نلحق وقتنا ... ياللا يا بابا ياللا يا ماما يا للا يا أماني ... بسرعة يا رضا يا للا يا اعتماد استعدوا يا ولاد ... ماما هاتستريح شوية وبعدين تحصلنا ... معلش ظروفها كدا نعمل ايه .. المهم ننبسط يا جماعة "
خرجوا جميعا وانغلق من خلفهم الباب فأخذت حبوب الصداع ووضعت رأسي على الوسادة وذهبت في ثبات عميق وأنا أحلم بالأواني والأطباق والملاعق والأكواب والأغنية من خلفهم تتردد قائلة: "باهواك يا هوا المصايف باهواك وأنا قلبي خايف أجيلك السنة دي تجرحني ما أنت عارف".