نساء نجيب محفوظ.. "تاريخ" و"جغرافيا"
قليلون من طوعوا لغتهم كي تحمل شهادة مرورهم على هذه الأرض، ونادرون هم من فطنوا بذكاء فطري إلى أن لا لغة أكثر فصاحة من تلك التي تحملها إمرأة، تروضها يومًا بعد يوم كي تنطق عنك.
بعيدًا عمن اختزلوها في رمز للغواية أو وضعوها في قوالب جامدة، تملأ مرة بدور الحبيبة أو الزوجة أو الأم، استطاع نجيب محفوظ بعبقرية، أن يوظف المرأة في أكل أعماله وحملها رسائله للقراء، فالمرأة عنده تاريخ وجغرافيا وانتصارات وانكسارات عاشتها مصر التي كتب عنها، فأحسن صنع فتاياته ونسائه، حين كتب عن "الغانية تشم رائحة الرذيلة" في سطور الرواية، وحين كتب عن "الثائرة المتمردة"، يصلك صوت صرختها، وحين كتب عن الأم والجدة، ترى فطورًا يعد ودعوة تؤمن لا إراديًا عليها، من منا لا يذكر أمينة "الثلاثية"، ومن منا لم يبكي تعاطفًَا مع نفيسة "بداية ونهاية"، ومن منا لم تصدمه حكمة جليلة "حديث الصباح والمساء".
- جليلة "حديث الصباح والمساء"
عجوز جاوزت المائة من عمرها، تكتسي بالسواد، بالانحناءة ذاتها تجلس كل صباح إلى "سبرتاية" القهوة، تطبخها على مهل، وتحملها إلى فنجانها قبل أن تفور، وما إن تبدأ في ارتشافها حتى تغرق في ذكرياتها، مع زوجها الشيخ الأزهري معاوية القليوبي، الذي لا يقل عظمة في نظرها عن أي من أبطال مصر، الذين غيروا وجه التاريخ.
جليلة رواية "حديث الصباح والمساء"، هي الزوجة والأم والجدة الوتد، والتي برغم بساطة مظهرها الذي رسمه نجيب محفوظ، إلا أنها من أكثر شخصياته النسائية تعقيدًا، عاصرت حكم محمد علي لمصر ومن تبعه، إلا أن جاءت الثورة العرابية، التي رأت أن زوجها الشيخ الأزهري معاوية القليوبي، كان أحد أبطالها، بل ولم يقل أهمية في نظرها من الزعيم أحمد عرابي، قائد الثورة.
ما إن تبدأ "جليلة" في الحديث عن زوجها والثورة حتى ينتابك شعورًا أن الزمن وقف بها هناك ولم يتحرك، صورة زوجها البطل "بتاع ربنا"، الذي لا ينطق لسانه غير بالقرآن، حتى أنها ظنته لم يخطئ في حياته قط، كانت جليلة عونًا دائمًا له، في لحظات انتصاراته وانكساراته، فشلت الثورة واحتل الإنجليز مصر، واعتقل زوجها وحكم عليها بقضاء خمسة أعوام في السجن، الذي بدأت معه "جليلة" تحج إلى أضرحة الأولياء والصالحين، تسألهم التوسط لها عند الله ليرفع عن زوجها أذى الخديوي والإنجليز.
خرج زوج "جليلة" من السجن منكسرًا، ولم يخجل من الاعتراف لها بذلك فحاولت جاهدة أن تحمل عنه همه، ولكنه مات "من القهر" كما روت حكايته دائما، تركها وحيدة بين بناته وابنه وكتبه ومسبحته وعباءته المعلقة في مكانها، وذكرياتهما معًا التي ظلت وفية لها إلى أن ملت الحياة، فسكنت إلى جوار مقبرته حتى يكتب لها لقائه.
- نفيسة "بداية ونهاية"
نفيسة "أتساءل عما بداخلها من شعور وهي تهوي إلى الماء، وكيف تلقى جسمها النحيل صدمة الماء الغليظ، وماذا دار بذهنها وهي تتخبط بين أمواجه، وأي جهد وجدت والطمي يكتم أنفاسها، وأي عذاب ذاقت ورغبة الحياة تثب بها إلى سطحه فيشدها باطنه إلى الأعماق، إن محاولة الغريق اليائسة للنجاة أشبه بأحلام الشقي بالسعادة"، هكذا ودع حسنين رواية نجيب محفوظ "بداية ونهاية"، التي تدور أحداثها في قاهرة منتصف الثلاثينيات.
أخته "نفيسة" التي لم تهوي في الماء وحسب لتتخلص من عار خطيئة "بيع الهوى"، وإنما هوت مرارًا في مستنقع الفقر والحاجة والعوز، بعد موت الأب عائل الأسرة، ليتركها وأخوتها الثلاثة وأمهم، يواجهون مصائرهم بمعاش ضئيل وبيت لا يملكون فيه سوى بعض قطع الأثاث، بيعت واحدة تلو الأخرى، ليسدوا بثمنها جوعهم، لتضطر الأخت للعمل "خياطة" لتعول أسرتها.
لم يكتم الطمي وحده أنفاس "نفيسة" وهي تغرق، كتمت أنفاسها حية رائحة الأقمشة الجديدة، التي غرقت بين خيوطها وألوانها الزاهية، منكبة على ماكينة خياطتها لتحيك لكل العرائس "جهازهن"، وتزفهن إلى بيوت أزواجهن، وهي التي اكتست بالسواد، كانت تحزم خيباتها واحدة تلو الأخرى مع كل عروس، رأت في عريسها فرصة ضائعة لها، لتتحول في النهاية إلى تلك"العانس"، التي لم يلتفت أحدهم إليها، حتى يغويها ابن البقال، الذي رأت فيه رغم وجهه القبيح وثيابه الرثة، رجل ثمن أنوثتها، التي كادت تنساها، فارتمت بين أحضانه دون عناء، ليفقدها آخر ما تبقى لها دون عناء أيضًا، تترك حياكة الأفراح مع آخر عروس، عروس البقال الذي أغواها، ووعدها بالزواج، لتمتهن حياكة رغبات عابري السبيل، كل ليلة، حتى هوت مرة أخرى قبل الغرق الأخير، في قسم السكاكيني، الذي تعرت فيه أمام أخيها الضابط حسنين، وسط بائعات الهوى، الذين ضبطوا في إحدى بيوت الدعارة، ليكتشف أن بدلته الميري هي أيضًا من "حياكة" نفيسة، التي تبعته إلى خارج القسم، حتى وصلا إلى النيل الذي ارتمت فيه محملة بخطيئاتها، ليحمل عنها ولو لمرة أخيرة ثقل جسدها بالخيبات والأحلام المتبخرة.
- أمينة "بين القصرين"
"محفوظ ناداني لبيت الندا يا سي السيد!"، هل استأذن نجيب محفوظ سي السيد، قبل أن يكتب عن أمينة؟، ربما.. لا يمكنك أن ترى "أمينة" ثلاثية نجيب محفوظ، "قصر الشوق"، و"بين القصرين" و"السكرية"، في سطور الكاتب الكبير، دون أن تستفز تعاطفك معها وتثير سخطك عليها في الوقت ذاته، فما أن تسمع"نحنحة" سي السيد التي تهز أرجاء البيت ذهابًا وإيابًا حتى ينتفض جسدك تعاطفًا مع رجفة أمينة وأولادها الخمسة، في سطور نجيب محفوظ، لمجرد أن ينظر إليها سي السيد.
وهي ذات الأمينة، التي يستفزك خضوعها لسيد، لم يكن كما خالته تقيًا ورعًا، يؤدي الصلاة في أوقاتها ولا يترك مسبحته، ويرتدي جلبابه كل صباح قبل الذهاب إلى متجره ويتوج وقاره بطربوش، يحسن "ظبط" زره، وهو ذات الطربوش، الذي يسقط عنه سهوا ويتبعه وقاره المصطنع مع أول كأس، و"هزة وسط" لإحدى بائعات الهوى في بيوت الدعارة، التي "أُحلت" له بعد كل صلاة عشاء.
يستفزك سؤال "ماذا لو دعى سيدنا الحسين أمينة، فجرًا ولبت الندا، ورأت سي السيد، وقد طُرحت عباءته وطربوشه ووقاره أرضًا؟ أمينة لم تر سيدها يفقد وقاره، وربما اختلقت له الأعذار له إن رأته، فـ"عبدة" مثلها، بدرجة زوجة وأم، لن يسعها إلا الامتثال لأوامر سيدها، وألا تلبي ندا غيره وإن كان ندا "سيدنا الحسين"، حتى لا تنهال عليها لعنات ذلك "الرب"، ويطردها من جنته.
السيد أحمد عبدالجواد، هو ذاته "أمينة" إنجليز مصر 1919، وهنا تظهر عبقرية محفوظ الذي ما أن تسأل أمينته، حتى ترد عليك "مصر" هذا العصر، التي خرجت في ذات العام من عباءة "سي السيد" لتلبي نداء سيدتها"ثورة 1919".