الذاكرة السياسية للتاريخ لا تكترث ولا تختزن دعاوى الشعارات والمتاجرة، خصوصاً حين تمس القضية التى احتلت منذ عام 1948 الضمير المصرى والعربى. التاريخ خلّد تضحيات مصر دعماً للشعب والقضية الفلسطينية.. مواقف تضع أمامها أهدافاً محددة وملموسة على أرض الواقع وتحقق نتائج تلبى مشاعر الفلسطينيين -بل العرب- تجاه قضية القضايا.
عام 1948 إثر بدء مذابح العصابات الصهيونية ضد الشعب الفلسطينى بعد صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947.. ضابط سلاح الفرسان أحمد عبدالعزيز الذى دعم عقيدته الوطنية الانضمام إلى الكلية الحربية لم ينتظر البطل طويلاً لحسم اختياره كى يصبح أول ضابط مصرى يطلب الذهاب لمشاركة أشقائه فى المقاومة ضد الاحتلال الصهيونى. شكّل كتائب مقاومة من المتطوعين ليصبح من أبرز قادة الحرب فى فلسطين ويستشهد بعد امتزاج دمائه الطاهرة بالدماء الفلسطينية بعد سلسلة انتصارات كبيرة على أرض المعركة.
تمضى العقود حافلة بالقرارات الصادرة عن المنظمات الأممية والمبادرات العربية تصدرت مصر فى إطلاقها والعمل على تفعيلها. الحقيقة أن مصر هى أول من حدد عبر نهج كل قياداتها السابقة حتى التصريحات المباشرة والدقيقة للرئيس عبدالفتاح السيسى أن استقرار المنطقة العربية -تحديداً فى ملف القضية الفلسطينية- لن يتحقق إلا خلال مسار واحد لا بديل عنه.. إقامة دولة فلسطينية مستقلة فى إطار حل الدولتين القائم على حدود 1967 بما يضمن لشعبها العيش بكرامة وتحت ظروف إنسانية وأمنية مستقرة. مصر الأقرب جغرافياً وأمنياً وإنسانياً إلى طبيعة وجذور القضية الفلسطينية لم تتوانَ عن تكرار التنبيه على العالم أن التساهل والتراخى عن فرض حل الدولتين غالباً ما ينذر بانفجار الموقف إلى درجة تتجاوز تاريخ المواجهات السابقة بين المقاومة وقوات الاحتلال الصهيونى.. وهو ما حدث فعلاً عند انفجار المقاومة يوم 7 أكتوبر الماضى كرد فعل مشروع تجاه آلام أبرياء يمارس ضدهم كل أشكال القمع والاستفزاز الإنسانى، الأمنى، الاقتصادى.. شعب سلب حتى حق الإقامة على أرض وطنه.
لحظة اندلاع كل مواجهة داخل الأراضى الفلسطينية، تبادر مصر بكل ثقلها من القيادة السياسية وكافة الأجهزة الأمنية والمنظومة الدبلوماسية إلى أخذ مهام دورها التاريخى -حتى قبل تدفق اتصالات قادة دول العالم بالرئيس عبدالفتاح السيسى- وبذل كل الجهود للوصول إلى تهدئة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى يتنبه العالم إلى خطورة عدم الاضطلاع بمسئولياته تجاه تحقيق الحل الجذرى الضامن للسلام المستدام.
سياسياً، مصر اتخذت بكل حزم موقفاً حاسماً للحفاظ على مقدرات الدولة الفلسطينية وشرعية وجود شعبها على أرضه أمام كل التبجح الإسرائيلى الذى لم يتوقف «هراء» مسئوليه حول تهجير سكان قطاع غزة إلى دول الجوار أو أى بقعة فى العالم. فى المقابل حشدت مصر حملة مكثفة من الجهود السياسية والدبلوماسية للوصول إلى تهدئة فورية تمهيداً لطرح القضية على الصعيد الدولى فى مسعى لفرض حل سياسى نهائى وجذرى. ما يستدعى العودة إلى عام 2020 وتبنى مصر موقفاً محدداً تجاه محاولات أمريكية للتطبيع العربى - الإسرائيلى تحت عنوان «صفقة القرن»، إذ دعت مصر إلى دراسة متأنية فى إطار النهج المصرى - العربى حول وضع أولوية تسوية عادلة تضمن الحقوق الكاملة للشعب الفلسطينى.
على المستوى الأمنى، مصر التى ارتبطت بمعاهدة سلام مع إسرائيل والتزمت بكل البنود بما يضمن الأمن القومى المصرى، حددت بوضوح أن التفكك الذى ساد بين منتصف عام 2012 حتى منتصف 2014 ما سمح لجماعة منحلة نبذت كل إيمان بالوطن والانتماء، إجراء مفاوضات «الخيانة» حول توطين مواطنى قطاع غزة.. هى ليست مصر التى استعادت عام 2014 قوتها ونجحت فى حربها ضد عصابات الإرهاب التى صور لها الضلال وهم ممارسة جرائمها فوق ذرة من تراب مصر.. هى مصر التى لا تبيع ولا تشترى العقيدة الوطنية مهما بلغت الإغراءات الاقتصادية. على المستوى الإنسانى، حجم المساعدات الإنسانية والإغاثة العاجلة التى قدمتها مصر تجاوز ثلثى مجموع المساعدات الدولية.. رقم يلخص بدقة حالة التعاطف والدعم الرسمى والشعبى تجاه الأشقاء فى قطاع غزة فى بادرة تنافس بين المؤسسات الحكومية والمدنية أبرزها التحالف الوطنى للعمل الأهلى التنموى وحياة كريمة، بالإضافة إلى فتح مطار العريش أمام طائرات تحمل المساعدات الإنسانية قادمة من دول ومنظمات إغاثة. سرعة إقامة المستشفيات الميدانية بالقرب من معبر رفح والحرص على سرعة نقل المصابين بعد أن أخرج القصف الوحشى الإسرائيلى جميع مستشفيات غزة عن العمل واعتدت قواته على المرضى وأجبرتهم على مغادرة المستشفيات. مصر تصدت لكل محاولات تعنت الجانب الإسرائيلى التى بلغت استهداف معبر رفح من الجانب الفلسطينى بهدف إعاقة وصول قوافل المساعدات وعربات الإسعاف الناقلة للمصابين إلى داخل الحدود المصرية، وجاء القرار الحاسم بربط دخول المساعدات ونقل المصابين مع السماح بمرور الأجانب ومزدوجى الجنسية من سكان قطاع غزة من معبر رفح.
تاريخ ارتباط مصر الثابت تَشكّل عبر عقود طويلة من العمل الدؤوب والجاد بحكم روابط عدة.. حرص مصر على الأمن القومى المصرى والعربى، عوامل الجغرافيا والتاريخ، التعاطف الشعبى الجارف مع الشعب الفلسطينى. ثوابت راسخة تنأى بنفسها عن التدنى إلى مساومات إقليمية ودولية. أبرز مواطن نجاح وفاعلية الدور المصرى تكمن فى رؤية الرئيس عبدالفتاح السيسى وتبنى دبلوماسية الحكمة وتوظيف التوازن الذى حققته مصر على صعيد علاقاتها الدولية عبر العقد الماضى لخدمة القضية الفلسطينية والتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة.