كثيراً ما نتحدث عن «حرية الصحافة» فى المجتمعات العربية، دون أن نضع تعريفاً محدداً لهذا المصطلح الذى أصبح ملتبساً ومشوشاً، (وأحياناً مشبوهاً) يختلط بفوضى الأفكار وعشوائية المهنة التى أصبح يمارسها البعض بعيداً عن الموضوعية والمصداقية.. وحديثى هذا ينطبق على الصحافة المكتوبة والتليفزيونية.. والإعلام الموازى أيضاً: «مواقع التواصل الاجتماعى».
وفى ندوة «دور حرية الصحافة فى بناء الدول»، التى انعقدت ضمن فعاليات محور «الحوار الثقافى الحضارى» بمنتدى شباب العالم بشرم الشيخ، وكعادة كل المؤتمرات الدولية تحول النقاش إلى التركيز على مصر، رغم وجود أجانب ضمن المتحدثين إلا أن المحتوى كلما ذهب بعيداً عاد ليركز على البلد الذى يحتضن المؤتمر!
الصدمة التى جذبت الأنظار إلى واقع الصحافة المصرية كانت فى الخريطة التى عرضها «ستيفين ريتشارد»، المدير التنفيذى بصحيفة «أوبزرفر البريطانية»، وهى خريطة أعدتها منظمة «مراسلون بلا حدود» حول حرية الإعلام والصحافة، فجاءت «كوريا» كأقل الدول فى الحريات الصحفية، والنرويج الأكثر حرية فى المقدمة، وبريطانيا المركز 40 فى حرية الصحافة.. لكن الغريب أن «ستيفن» كان يطالب بمزيد من التقييد لحرية الصحافة فى إنجلترا بزعم انتهاك الصحافة لخصوصية المواطنين!
وقد رد الدكتور «ضياء رشوان» معلقاً على خريطة منظمة «مراسلون بلا حدود»، التى وضعت مصر فى ترتيب متأخر، أن مصر تمر بظروف منذ عام 2011 تتسم بمتغيرات كبيرة وأن الصحافة جزء من المجتمع الذى عانى تلك الظروف، ويجب مراعاة تلك الظروف عند أى تقييم لحرية الصحافة.. لكن الأهم من ذلك أن منظمة «مراسلون بلا حدود» لا تجد «جهة مسئولة» توفر لها المعلومات، فيتم تجميعها بشكل انتقائى من مصادر مجهولة أو مغرضة.
وفى المقابل أكدت «سعاد الطيب» مدير عام بمحطة «مونت كارلو»، أهمية احترام الصحافة لقوانين الدول ومساهمتها فى بناء المجتمعات باعتبارها ركيزة من ركائز الديمقراطية.. «الطيب» وضعت شرطاً واحداً لصحافة بلا رقيب تمارس دورها فى الرقابة المجتمعية وتنمية الوعى وهو «المهنية».. وقالت: (القانون لا يعطى أى جهة حكومية التدخل فى السياسة التحريرية للمؤسسة، كما يوقع الصحفيون ميثاق شرف للحفاظ على أخلاقيات المهنة).
الغريب أن معظم الصحف التى أبرزت أخبار الندوة أشادت بـ: (الدور الوطنى والمسئولية للمؤسسات الإعلامية القومية من خلال الأخلاق المهنية التى تحكم أداءها، متفقين على دور الإعلام لنشر حرية فكرية وتوعية واستنارة حقيقية بالمجتمع بعيداً عن انتهاك أى خصوصية، مشددين على دور المهنية وتوفر المعلومات الصحيحة للمساهمة فى حرية الصحافة والتصدى للشائعات).. والحقيقة أن هذا أبعد ما يكون عما دار فى ندوة كنت طرفاً فيها (!!).
فقد حذر «ألبرت شفيق»، رئيس قناة سى بى سى إكسترا، من التشدد فى الآراء التى تضر بحرية الصحافة، مطالباً بضرورة قبول الآخر والحوار معه بعيداً عن أى تصنيفات مذهبية أو عرقية لوسائل الإعلام بما يضر بحرية الإعلام.. وتحدث عما اسماه «تمثيلية عبثية» ويعنى بها برامج «الهرى التليفزيونى»، وهى برامج «التوك شو» التى تتعمد الإثارة والفرقعة الإعلامية وتشعل حرائق الشائعات، دون أن تستند إلى «معلومات موثقة»، فكل همها جذب المشاهد لتحقيق أعلى نسبة من «تورتة الإعلانات»!
وطالب «ألبرت شفيق» الحكومات بضرورة دعم الإعلام بالمعلومات أولاً بأول، حتى لا يسقط فريسة للشائعات، منتقداً ما وصفه بالإرهاب الفكرى على مواقع التواصل الاجتماعى، التى تقوم على سب وإرهاب المختلفين معهم فى الرأى.
أما الإرهاب الحقيقى الذى تحدثت عنه فى الندوة فهو وجود قانون يجيز «حبس الصحفيين» فى قضايا النشر، وعدم وجود آلية محددة أو قانون لحرية تداول المعلومات، هذا بخلاف غياب الطرف الأصيل فى صياغة العلاقة بين الدولة وأبناء المهنة، وهو ما جعل دور نقابتى (الصحافة والإعلام) شكلياً، وحول ميثاق الشرف الإعلامى إلى «ورقة» يتم تطبيقها أو تعليقها على الحائط بقرار فوقى!.. وبالتالى أصبحت الصحافة «مضطربة» لا تؤدى دورها على النحو الأكمل.. وتتخبط أحياناً فى مواجهة قضايا مصيرية.
الحديث عن صحافة (مرئية ومكتوبة) تنشر الوعى والاستنارة، وتخوض حرباً ضد التطرف والإرهاب، وتشارك فى بناء المجتمعات يحتاج أولاً إلى مراجعة مفهوم «الحرية» ذاته.. ففى دولة ثقافتها إسلامية وحرية الاعتقاد فيها «مطلقة» بأمر المولى عز وجل.. لا يجوز أن تظل حرية الصحافة والإعلام مقيدة، وحرية الفكر والتعبير «منحة» تأتى من قمة هرم السلطة أو تمنع كذلك بقرارات سيادية!
حرية الصحافة هى إحدى آليات الديمقراطية والرقابة المجتمعية، وقد كان الإعلام طرفاً فى عملية الحراك السياسى قبل ثورة 25 يناير، كما كان «رأس الحربة» فى ثورة 30 يونيو.. وكل هذا تم بـ«مبادرات فردية» يدرك صاحبها «المسئولية الوطنية».. أما الآن فقد أصبحت الحرية هى: «حرية التسريبات» وحروب التكفير ونشر الخرافة والدجل والشعوذة.. ولا عزاء لأصحاب الضمائر!