«عمار» تقتله الفئة الباغية
إذا نحينا قليلاً نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم حول أن «عمار تقتله الفئة الباغية»، وتأملنا شخصية «عمار» وموقفه من الصراع بين على ومعاوية، فسوف ندرك أن من يملك عقل ومنطق وتجربة وبلاء عمار بن ياسر فى الإسلام، من الجدير به أن ينحاز إلى الحق، وإلى ما يرضى الله ورسوله، وأن يجابه من يبغى على حقوق الآخرين وينازعهم أمرهم. من هنا كان انحياز عمار بن ياسر إلى على بن أبى طالب، إذ كان يعتبر معاوية باغياً حين رفض مبايعته، ومن يدقق فى هذه الكلمات التى قالها عمار بن ياسر أثناء معركة صفين، يستطيع أن يستدل بسهولة على أنها لا تخرج إلا عن عقل حكيم وقلب سليم لا يمكن أن ينحاز إلا للحق:
«نادى عمار يومئذ: من يبتغى رضوان ربه، ولا يلوى إلى مال ولا ولد؟ فأتته عصابة من الناس، فقال: أيها الناس! اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبتغون دم عثمان، ويزعمون أنه قتل مظلوماً، والله ما قصدهم الأخذ بدمه ولا الأخذ بثأره، ولكن القوم ذاقوا الدنيا واستحلوها، واستمرّوا الآخرة فقلوها، وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم وشهواتهم، ولم يكن للقوم سابقة فى الإسلام يستحقون بها طاعة الناس لهم، ولا الولاية عليهم، ولا تمكنت من قلوبهم خشية الله التى تمنع من تمكنت من قلبه عن نيل الشهوات، وتعقله عن إرادة الدنيا، وطلب العلو فيها، وتحمله على اتباع الحق، والميل إلى أهله، فخدعوا أتباعهم بقولهم: إمامنا قتل مظلوماً، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون، ولولا ذلك ما تبعهم من الناس رجلان، ولكانوا أذل وأخس وأقل، ولكن قول الباطل له حلاوة فى أسماع الغافلين، فسيروا إلى الله سيراً جميلاً، واذكروا ذكراً كثيراً».
يشرح عمار بن ياسر بلسان طليق وعقل حكيم رؤيته لموقف معاوية وغيره ممن ناهضوا علياً بن أبى طالب، تحت زعم الثأر من قتلة عثمان بن عفان، ويؤكد أنهم لا يبحثون عن دين، بل يفتشون عن دنيا ويريدون أن يصبحوا «ملوكاً جبابرة»، وأنهم يخدعون أتباعهم ويسوقونهم إلى الهلاك فى الدنيا والآخرة. لقد كان «عمار بن ياسر» رضى الله عنه يقول هذا الكلام وهو فى موقف حرب وقتال وفى التسعين من عمره، لكنه كان ممسكاً بالحق، ويعلم أن بنى أمية يريدون وراثة الإسلام كمُلك، وهم الذين تلكأوا فى الإيمان به كدين. قتل عمار على يد الفئة الباغية، وقد كان مقتله عاملاً دافعاً فى صفوف على بن أبى طالب، فدبت الحماسة فى نفوس أجناده بعد أن اطمأنت قلوبهم إلى انحيازهم للحق، وبدأ جيش على يظهر على جيش معاوية، وكان أن دعى على معاوية لمبارزة حرة حتى يتم حسم الأمر بينهما - حقناً للمزيد من دماء المسلمين - فأشار عليه عمرو بن العاص بالخروج فقال له معاوية: إنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله ولكنك طمعت فيها بعدى.
ويذكر صاحب البداية والنهاية أن عمرو بن العاص قال لمعاوية لما رأى الدفة تميل نحو على بن أبى طالب: «إنى قد رأيت أمراً، لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعاً، ولا يزيدهم إلا فرقة، أرى أن نرفع المصاحف وندعوهم إليها، فإن أجابوا كلهم إلى ذلك يرد القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم، فمن قائل نجيبهم، وقائل لا نجيبهم، فشلوا وذهب ريحهم». وقد كان تقدير «المشير» عمرو بن العاص فى موضعه، إذ حدث ما توقعه بالضبط، وأصيب صف على بن أبى طالب بالانشقاق، فعندما جاء رجل - من صف معاوية - إلى على رضى الله عنه، وقال له: بيننا وبينكم كتاب الله.. «ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم بعد ذلك وهم معرضون» (آل عمران)، فقال على: نعم أنا أولى بذلك، بيننا وبينكم كتاب الله، فجاءه الخوارج (القراء) وسيوفهم على عواتقهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين ما ينتظر هؤلاء القوم الذين على التل إلا أن نمشى إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم». وهنا كان الانشقاق، وقبل على بن أبى طالب التحكيم على غير رغبة «القراء»، واتفق الفريقان على التحكيم، فوكل معاوية عمرو بن العاص، وأراد على أن يوكل عبدالله بن عباس فمنعه القراء، وقالوا: لا نرضى إلا بأبى موسى الأشعرى، ووصفوه بأنه كان ينهى الناس عن الفتنة والقتال، قال على: فإنى أجعل الأشتر حكماً، فقالوا: وهل سعّر الحرب إلا الأشتر، قال: فاصنعوا ما شئتم.