توريث «العمدية» حائط صد لحماية القرى من صراع العائلات.. و«كله بالقانون»
ممدوح الإمام
صور قديمة تزين جدران الغرفة الرئيسية التى يستقبل فيها عمدة القرية ضيوفه، إحداها للجد الأكبر، أول من جلس على كرسى العمدية، وأخرى لشقيقه أو أبيه الذى ورث عنه المنصب، هذا هو الحال فى معظم القرى، التى توارث الموقع فيها عائلات دون غيرها، جيلاً بعد جيل، منذ أن كانت مصر يحكمها النظام الملكى، حتى بعد إعلان الجمهورية، فقد ظلت العمدية ملكيات صغيرة، الأبناء يتوارثونها عن آبائهم وأجدادهم، بعض الأسر خرج منها كرسى العمدية نتيجة تفككها، أو ضعف هيبتها، أو انقطاع ذريتها من الذكور، أو نتيجة أحكام قانونية، لكن الغالبية ظلت تحتفظ بالكرسى لعشرات السنين، إلى أن جاء القانون 58 لسنة 1978، الخاص بتعيين العمد والمشايخ، ليضع قواعد ومعايير جديدة، تصطدم أحياناً بمبدأ «التوريث».
«لقد ظلت العمدية فى عائلتنا لسنوات، ولم تخرج منها، منذ أن كان جدى حاكماً لمديرية الدقهلية»، بهذه الكلمات بدأ الدكتور ناصر كمال، العمدة السابق لقرية «ميت فارس»، التابعة لمركز بنى عبيد بمحافظة الدقهلية، حديثه لـ«الوطن»، مشيراً إلى أن جده الأكبر، «البسيونى»، كان حاكماً للمديرية، وبعده تولى جده «عبدالعزيز» كرسى العمدية فى القرية، ثم جده «محمود»، ومن بعده والده «كمال» ثم عمه «عبدالرحمن»، إلى أن تولى المنصب بنفسه لعدة سنوات، قبل أن يتنازل عنه لظروفه الصحية، وأوضح أن العمدية لم تكن تتنقل بين أفراد عائلته بمبدأ التوريث، وإنما كانت عن طريق انتخابات يشارك فيها جميع أبناء القرية، إلى أن جاء قرار توليه المنصب بالتعيين.
وأضاف «ناصر» أن «العمدية نعتبرها تكليفاً وليست ميزة، نحمل معها عبء مشاكل القرية، ما أكسبنا قدرة كبيرة على حل كثير من المشاكل عرفياً، بعيداً عن المحاكم، التى كانت بمثابة بهدلة وقلة كرامة لأبناء القرية، ولا يحصلون على حقوقهم إلا بعد سنوات من النزاعات القانونية، ولذلك كانوا يفضلون اللجوء إلى القضاء العرفى، الذى يحسم المشكلة فى جلسة واحدة»، مشيراً إلى أن أكثر من 99% من المشاكل كان يتم حلها بالتراضى بين جميع الأطراف، وكانت فى معظمها مشاكل تتعلق بالمواريث، التى عادة ما كانت المحاكم لا يمكنها الفصل فيها، أو أن تسبب الأحكام الصادرة بشأنها فى إثارة العداوة بين أبناء العائلة الواحدة.
نفس الحال تكرر فى قرية «ميت زنقر» بالدقهلية، حيث تحدث إبراهيم حسن منصور، 57 سنة، مهندس زراعى، لـ«الوطن» قائلاً: «منذ نحو قرن من الزمان، ونحن نحتفظ بمنصب العمدة فى عائلة أبوعبدالله، وتوقفت العمدية عند أخى، ومنذ وفاته فى نهاية سنة 2012 وأنا فى انتظار صدور قرار بتعيينى»، ولفت إلى أن جده الأكبر «إبراهيم»، تولى العمدية لما يقرب من 30 سنة، منذ عصور «الباشوية»، وبعده جده «منصور»، الذى كان عمدة القرية لأكثر من 12 سنة، بينما والده «حسن»، شغل كرسى العمدية لنحو 47 سنة، قبل أن يخلفه شقيقه الأكبر «جلال»، لمدة 5 سنوات، وبعد وفاته تقدم بطلب رسمى لتعيينه عمدة للقرية، بعد استيفاء جميع الشروط التى تؤهله لشغل المنصب.
واعتبر «إبراهيم» أن تناقل كرسى العمدية بين أبناء عائلته لا يعتبر توريثاً، بقدر ما هو التزام بتوافر الشروط لاختيار الأصلح لشغل الموقع، وقال: «لقد تربينا على العمدية، ونعرف قوانينها وقواعدها، وانتماءاتنا فى الأساس تكون للنظام الحاكم».
أساتذة اجتماع: زعامات شعبية لتعزيز التماسك الاجتماعى.. وميراث ثابت فى قرى قبلى وبحرى واستوطنت فى العائلات الكبيرة.. والقانون الجديد يطيح بـ"كبير عُمد" الغربية.. و"سعد" تزوج 14 مرة لإنجاب ولد يرث "الكرسى".. و"ممدوح": تركت وظيفتى فى "التعليم" بعد وفاة والدى للترشح للمنصب
أما الدكتور محمد أحمد غنيم، أستاذ علم الاجتماع فى كلية الآداب بجامعة المنصورة، والعميد الأسبق للكلية، فأكد لـ«الوطن» أن «الزعامات الشعبية التقليدية، مثل العمدة وشيخ البلد، نسميه فى علم الاجتماع بمصطلح الضبط الاجتماعى، وهو فى المجتمعات التقليدية أقوى منه فى المتحضرة»، وقال إن العمدة كان يتم اختياره من العائلات الكبيرة نظراً لمكانتها، كما أن العمدة كان يأتى فى أغلب الأحيان من بين أكثر ملاك الأراضى الزراعية بالقرية، حتى إن العمدية كانت تظل فى بعض البيوت لأكثر من 50 سنة، ما كان يؤدى إلى نوع من التماسك الاجتماعى داخل القرية.
وفى المنيا، يرى الكثير من الأهالى أن المثل القائل «ابن الوز عوام» ينطبق على كرسى العمدية، يجب أن يشغله شخص لديه خبرة بالمسئوليات الكبيرة الملقاة على منصب العمدة، فهو ليس مجرد منصب شرفى، وإنما يجب أن يحظى به الشخص الأكثر حكمة ورشداً بين أهالى قريته، والذى تربى فى «دوار العمدية»، حتى ترسخت لديه شخصية «العمدة»، وهذا ما عبر عنه «وليد سيد»، ابن قرية «جلال الشرقية»، التابعة لمركز ملوى، حيث أكد أن عمدة القرية، ويُدعى «فيصل على»، يمكنه تسوية كثير من الخصومات بين أبناء القرية، لما يتمتع به من خبرة ومقومات كبيرة، والتى اكتسبها عن والده وأجداده، الذين تعاقبوا على كرسى العمدية جيلاً بعد جيل، وهو ما تكرر أيضاً فى قرية «منشية الذهب القبلية»، بمركز المنيا، حيث يحتفظ عمدتها إسماعيل درويش، بمقعد العمدية، الذى توارثته عائلته منذ عام 1948، حينما كان جده الأكبر «حبشى» يشغل هذا المنصب.
وقالت الدكتورة بركيسة طه، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب فى جامعة المنيا، إن العمدة لم يعد ذلك الشخص الطاغية الذى يسيطر على أهالى القرية، وأرجعت ذلك إلى عدة عوامل، منها ارتفاع مستوى الثقافة والتعليم، وعدم تقبل الأجيال الجديدة لفكرة التوريث، إلا أنها أكدت أن خروج العمدية من عائلة إلى أخرى قد يتسبب فى صراعات، نظراً لأن نظام العمدية حتى إن بدا أنه ظاهرة متوارثة، فإن عدم توريثها قد يسبب كثيراً من المشاكل.
محمد عبدالمقصود، 62 سنة، من قرية «الترامسة» بمحافظة قنا، اعتبر أن الأصلح لشغل كرسى العمدية شخص تربى على مسئوليات الموقع، وعلى دراية بكل كبيرة وصغيرة فى القرية، مؤكداً أن وجود العمدة فى القرية يُعد بمثابة «حائط صد» لحماية القرية من صراع العائلات الكبيرة، كما أن الأجهزة الأمنية عادة ما تلجأ إليه لحل كثير من الجرائم الكبرى التى تحدث فى نطاق قريته، بينما النزاعات المحدودة أو الأحداث المعتادة بين الأهالى، كان العمدة يتولى التعامل معها بنفسه، دون اللجوء للشرطة، إلا أنه أشار إلى أن دور العمدة تقلص كثيراً خلال الفترة الأخيرة.
البحث عن «وريث ذكر» كان دافع العمدة السابق لقرية «خزام»، بمحافظة الأقصر، سعد عقل ودنان، للزواج 14 مرة، ومازال الرجل، الذى تجاوز الـ80 من عمره، يبحث عن زوجته الـ15، أملاً فى تحقيق حلمه، بعدما أثمرت زيجاته السابقة عن 7 بنات، جميعهن متعلمات، وبينهن اثنتان حصلتا على درجة الدكتوراه، وسعياً وراء حلم «الوريث الذكر» ليخلفه على كرسى العمدية، أقدم «ودنان» على الزواج من بنات عدد من القبائل والبلدان فى صعيد مصر، ولكنه قام بتطليق جميع زوجاته، عدا اثنتين، الثانية التى ارتبط بها قبل 48 سنة، والأخيرة التى تزوج بها قبل عدة سنوات، وبحسب ما أكد لـ«الوطن» فإنه لا يتذكر أسماء بعض زوجاته، بسبب عامل السن، الذى أثر على ذاكرته.
وفى دمياط، أكد ممدوح محمد الإمام، 62 سنة، عمدة قرية «أبوجريدة»، التابعة لمركز فارسكور، أنه ورث الكرسى عن والده، الذى كان أول عمدة للقرية بعد انفصالها عن قرية «الرحامنة» سنة 1996، وأضاف أنه كان يعمل مديراً لإحدى المدارس، ولكن بعد وفاة والده عام 2006، ترك وظيفته وتقدم بطلب للترشح لمنصب العمدية، وبالفعل شغل الكرسى لمدة 3 دورات حتى نهاية 2018، وأضاف أنه فى أعقاب صدور التعديلات القانونية الجديدة، تقدم بطلب موثق بالمستندات اللازمة للاستمرار فى موقعه، مشيراً إلى أنه يسعى إلى مواصلة العمل على حل مشاكل القرية، وعلى رأسها استكمال مشروع الصرف الصحى.
وجاءت تعديلات أحكام القانون 58 لسنة 1978، والتى أقرها مجلس النواب مؤخراً، لتضع شروطاً جديدة لتعيين العمد ومشايخ القرى، ومن أهمها الحصول على شهادة إتمام التعليم الأساسى على الأقل بالنسبة للعمدة، وإجادة القراءة والكتابة لشيخ البلد، لتمثل عقبة كبيرة أمام استمرار أحد أكبر العمد بمحافظة الغربية فى منصبه، والذى شغله لأكثر من 46 عاماً، وهو أحمد عبدالله قطب، عمدة قرية «أبيار»، التابعة لمركز كفر الزيات، حيث تحدث الرجل البالغ من العمر 74 سنة لـ«الوطن» قائلاً إنه يشغل كرسى العمدية منذ عام 1970، بعد وفاة جده، وكان عمره وقتها 26 عاماً.
وأضاف أنه عندما تقدم بأوراقه للتعيين فى منصبه لفترة جديدة، فوجئ بأن عليه تقديم شهادة تثبت حصوله على شهادة التعليم الأساسى، أو شهادة التعليم الإلزامى بالنسبة لحالته، والتى حصل عليها سنة 1954، ومدة الدراسة بها 6 سنوات، تعادل التعليم الابتدائى، مشيراً إلى أن ابن شقيقه توجه إلى مديرية التربية والتعليم بالغربية لاستخراج هذه الشهادة، كان الرد أن الشهادة غير موجودة نظراً لكونها قديمة، ومرور 64 عاماً عليها.
مثال آخر على توريث كرسى العمدية فى محافظة المنوفية، يتجسد فى عزت أبوالنصر، الذى أصبح سادس شخص فى عائلته يتولى منصب العمدة فى قرية «شبراباص»، التابعة لمركز شبين الكوم، فبعد وفاة والده العمدة بشكل مفاجئ، والتى كانت بمثابة نقطة تحول فى حياته، قرر التخلى عن وظيفته فى مصلحة الضرائب، وتقدم بأوراق ترشحه للعمدية، عملاً بوصية والده، الذى تحدث عنه لـ«الوطن» بقوله: «زمان مش زى دلوقتى، وأنا مش زى والدى، أنا أقل منه بكتير، كان حواليه ناس عظيمة، لا تختلف عنه كثيراً، بالإضافة إلى أن الكلمة كانت ميثاقاً وعهداً يتم الالتزام والوفاء به».
وعن القانون الجديد للعمد والمشايخ، وشرط الحصول على شهادة التعليم الأساسى، اعتبر «أبوالنصر» أن التعليم وحده ليس معياراً لقياس كفاءة أو ضعف العمدة، وأضاف: «كثيراً ما كنت أقابل أشخاصاً لم ينالوا نصيبهم من التعليم، ولكن بعقلهم وكلمتهم يمكنهم أن يحكموا 100 قرية»، ولفت إلى أن هذه الشروط قد تتسبب فى إثارة أزمة كبيرة، خاصةً فى قرى الصعيد، حيث ترتفع نسبة الأمية، ما قد يؤدى إلى استبعاد الكثير من العمد ورؤوس العائلات الكبيرة.