"المرأة التكنوقراط".. كيف تتحول "التاء المربوطة" إلى قوة اقتصادية فاعلة؟!
اقتصار مشاركة العنصر النسائى فى سوق العمل على 23٪ يحرم الاقتصاد من مكاسب متعددة
تُشير التقديرات إلى أن المرأة تمثل نحو 48.5% من إجمالى السكان فى مصر، وهو ما يوضح أنه من بين كل 100 شخص يعيش على أرض مصر هناك نحو 49 سيدة، وإذا لم يتم تمكينهن وتأهيلهن للمشاركة فى التنمية الاقتصادية التى تتبناها دولتنا الآن، فهذا يعنى أننا نخسر نصف طاقتنا البشرية تقريباً، بل سيشكل ذلك عبئاً كبيراً على الاقتصاد الوطنى.
ولكن دعونا أولاً ننظر إلى بعض المؤشرات التى توضح وضع المرأة بشكل عام فى الاقتصاد المصرى، ومن ثم ننتقل إلى وضع المرأة التكنوقراط التى تمثل القوة الفاعلة والكتلة الحرجة والمحرك الرئيسى للتغير فى الاقتصاد.
الربع الثانى من 2019 أصدر المركز المصرى للدراسات الاقتصادية تقريراً يوضح فيه ارتفاع نسب البطالة بين الإناث إلى 22.4% مقارنة بـ4.2% فقط للذكور، وتأتى هذه النسبة الكبيرة من المساهمة الضئيلة للمرأة فى القوى العاملة والتى قدرها البنك الدولى بـ23.8% خلال 2019 مقارنة بالمتوسط العالمى الذى يُقدر بـ38.9% من إجمالى القوى العاملة، وذلك من إجمالى قوة العمل التى تُقدر بنحو 28 مليون فرد.
وتوضح المعادلة البسيطة أن هناك نحو 49 مليون سيدة تعيش على أرض مصر، منهن 6.6 مليون سيدة داخل قوة العمل ومستعدة للمشاركة فى الناتج المحلى الإجمالى للدولة، بينهن 1.5 مليون سيدة لم يحصلوا على عمل ولم يتسنَّ لهن المشاركة فى الناتج المحلى.
الدولة تنتصر للمرأة فى تمكينها اقتصادياً.. والعادات واللوائح الداخلية تعرقل مشاركة العنصر النسائى فى التنمية الاقتصادية بالمحافظات
أما عن السيدات التكنوقراط اللائى يمتلكن الإمكانات والمهارات التى تمكنهن من تعظيم إنتاجهن فى المجالات والقطاعات الاقتصادية المختلفة، بل ومع تأهيل العديد منهن ليتمكنّ من الوصول لمناصب قيادية فى المؤسسات التى يعملن بها، وتحقيق نتائج هائلة، يمتلك العالم منهن نحو 29% من إجمالى الإناث حول العالم، ويتركز انتشار المرأة التكنوقراط بقوة فى أوروبا الشرقية بمعدل 32%، أما على المستوى المحلى فقد تبلغ نسبتهن نحو 28% من إجمالى السيدات.
وتستعين إدارات الدول بالسيدات التكنوقراط لتطوير الأداء فى المؤسسات المختلفة للدولة، كما تقوم العديد من المؤسسات الخاصة عالمياً بتمكين السيدات فى مراكز صنع القرار لما يمتلكنه من مهارات تنعكس على النتائج المالية والربحية للشراكات، وفى مصر استعانت القيادة السياسية بالمرأة فى العديد من المناصب القيادية بالدولة، حيث مكنت 8 سيدات من قيادة عدد من الحقائب الوزارية المؤثرة بشكل مباشر فى الاقتصاد المصرى، فضلاً عن ارتفاع نسبة تمثيل المرأة فى مجلس النواب إلى 15% فى المجلس الحالى.
كما قامت هيئة الرقابة المالية بإصدار قرار ألزمت فيه الشركات المدرجة بالبورصة بضرورة إدخال عنصر نسائى داخل مجالس إداراتها، وذلك فى الوقت الذى يرصد فيه التقرير السنوى الأخير لمرصد المرأة بمجالس الإدارة لعام 2018، أن 54% من الشركات المدرجة فى البورصة لم تعيّن بعد امرأة واحدة فى مجالس الإدارة، كما أن هناك 21 شركة مدرجة فى البورصة لها تمثيل نسائى فى مجالس إداراتها يتراوح بين 33% و67%.
المجتمع المصرى يفقد 40 مليون نسمة من طاقته البشرية نتيجة تحديات عمل المرأة
وأوضح التقرير أن القطاع المصرفى هو الأعلى من حيث تمثيل المرأة فى مجلس الإدارات بمعدل 11.4%، فى حين تصل نسبة تمثيل المرأة فى مجالس إدارات الشركات المدرجة بالبورصة إلى 10.2%، كما تصل نسبة تمثيل المرأة فى قطاع الأعمال العام إلى 8.3%، وتضمن التقرير أيضاً أن هناك بنكاً واحداً يضم أكثر من 30% عنصراً نسائياً ضمن مجلس الإدارة وفقاً لبيانات 2018.
"سيدات يقدن المستقبل" تسطّر نموذجاً ناجحاً للمبادرات الأهلية التى ترعاها الدولة لتأهيل المرأة التكنوقراط.
كما اتضح أن أعلى تمثيل للمرأة فى مجالس إدارة شركات قطاع الأعمال العام كانت فى شركات صناعة الأدوية وذلك بنسبة 22%، وأقل نسبة لتمثيل المرأة كانت فى مجالس إدارة شركات البناء والتطوير بنسبة تصل إلى 2.5%، فى حين أن هناك 13 شركة من شركات قطاع الأعمال العام تضم مجالس إداراتها أكثر من 30% من النساء، وهو ما جعل المجلس القومى للمرأة، الذى يقوم على إصدار التقرير، يوصى بضرورة دعم 54 سيدة مؤهلة للانضمام إلى مجالس إدارات القطاعات المذكورة كل عام، وذلك بهدف زيادة نسبة مشاركة المرأة المصرية فى مجالس الإدارات إلى 30% بحلول 2030.
أما على المستوى التشريعى فقد قامت الدولة بسن العديد من التشريعات التى تضمن حقوق المرأة سياسياً واجتماعياً، ولكن تظل هناك بعض القيود الأخرى التى تحول دون تأثير هذه التشريعات إيجابياً على تمكين المرأة، حيث أصدر البنك الدولى تقريراً بعنوان «المرأة وأنشطة العمل والقانون 2020»، والذى أوضح أن النساء لا يتمتعن إلا بثلاثة أرباع الحقوق القانونية للرجل عالمياً، حيث يقيس هذا المؤشر مدى تأثير القوانين واللوائح على الفرص الاقتصادية للمرأة فى 190 اقتصاداً.
ويحلل المؤشر الحقوق الاقتصادية أثناء مراحل مختلفة ومهمة من حياة المرأة العاملة، من خلال ثمانية مؤشرات، يتمثل أبرزها فى القوانين التى تؤثر على قرارات المرأة للدخول إلى القوى العاملة والبقاء فيها والتى حققت مصر فيه 75% مقارنة بالمتوسط العالمى 78.5%، فضلاً عن مؤشر القيود التى تواجهها النساء عند بدء عملهن الخاص والذى حصلنا فيه على تقييم 75% مقابل 82.8% عالمياً، ومؤشر قياس القوانين واللوائح المتعلقة بالقيود الوظيفية والفجوة فى الأجور بين الجنسين والذى لم تحصل فيه مصر على أى تصنيف يضمن إلزام الشركات بالمساواة فى الأجور بين الرجل والمرأة، وذلك فى الوقت الذى توضح فيه منظمة العمل الدولية أنه إذا ما حصلت النساء على نفس دخل الرجال يمكن أن تزداد الثروة العالمية بمقدار 160 تريليون دولار.
وتضمن أيضاً التقرير مؤشراً يُقيّم القوانين التى تؤثر على عمل المرأة بعد إنجابها، وحصلت مصر فى هذا التقييم على 20% مقابل متوسط عالمى 53.9%، بالإضافة إلى تقييم القيود المفروضة على حرية حركة المرأة بما يؤهلها للوصول إلى أماكن العمل فى أى مكان بالجمهورية، وحصلت مصر فى هذا التقييم على 50% مقارنة بـ87.2% عالمياً، والقوانين التى تؤثر على حجم معاش المرأة وحصلت مصر فيه على العلامة الكاملة بـ100% مقارنة بـ73.2% كمتوسط عالمى.
توسيع أنشطة "منتدى الخمسين" فى المحافظات بارقة أمل جديدة
وبلغ التقييم العام لمصر فى مؤشرات «المرأة وأنشطة العمل والقانون 2020» على 45% مقارنة بالمتوسط العالمى للدرجات 75.2%، وهو ما يوضح أن الوتيرة العامة لتمكين المرأة كانت بطيئة، وذلك على الرغم من هذه الجهود التى قامت بها الدولة لتمكين المرأة اقتصادياً، وتخصيص عام للمرأة، ووضع مميزات خاصة لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر التى تقوم بها المرأة، إلا أن هذه الجهود قد تنعكس بشكل واضح على السيدات اللائى يقطنّ فى عدد قليل من المحافظات مثل القاهرة والجيزة والإسكندرية، وعلى العكس فى المحافظات بالوجه القبلى وبعض محافظات الوجه البحرى والمحافظات الحدودية لم تحصل المرأة على حقوقها الأساسية بنسب كبيرة، فماذا عن تمكنها فى النشاط الاقتصادى للمحافظة؟!
من هذا المنطلق لا بد أن نتابع بأعين فاحصة التجارب الدولية فى تمكين المرأة التكنوقراط اقتصادياً والنتائج التى أحدثها هذا التمكين بتحول جزء مفقود من المجتمع يمثل عبئاً إلى قوة فاعلة منتجة تؤثر فى الاقتصاد القومى وتساهم فى القرارات المصيرية بالدولة.
وأرى أن هذا التغيير الجذرى لوضع المرأة لا بد أن تقوده مبادرات أهلية ترعاها الدولة للوصول إلى السيدات فى مختلف محافظات الجمهورية، ولعل من أبرز هذه المبادرات التى تعمل وفق رؤية مؤسسية تستهدف مساهمة المرأة التكنوقراط فى تعزيز مكانة الاقتصاد المصرى هى مبادرة «سيدات يقدن المستقبل» التى يتبناها «منتدى الخمسين سيدة الأكثر تأثيراً» الذى تم تأسيسه عام 2015، حيث قام المنتدى بعمل اجتماع مع ممثلى المجلس القومى للمرأة من الـ27 محافظة لنقل تجربة المنتدى وبرامجه إلى جميع أنحاء الجمهورية، وإخراج الـ50 سيدة الأكثر تأثيراً كل عام من كل محافظة.
وانطلاقاً من هذه النقطة يمكن أن نسرد تجربة واستراتيجية المنتدى فى وضع أكبر قاعدة بيانات للسيدات التكنوقراط فى مختلف محافظات مصر، وذلك بما يتوافق مع متطلبات تنفيذ رؤية مصر 2030، ودعم وتمكين مشاركة المرأة فى التنمية الاقتصادية المستدامة بالدولة المصرية، ودعم وجودها فى مراكز صنع القرار بالقطاعين العام والخاص.
فى البداية تم تأسيس المنتدى من خلال تجمع أعضاء يمتلكون مهارات رفيعة المستوى وخبرات كبيرة، حيث تقوم بعضهن بإدارة مؤسسات بحجم أعمال 200 مليار جنيه، كما يتضمن أيضاً عدداً من الوزيرات، وأعضاء مجلس النواب، ورؤساء قطاعات فى مؤسسات اقتصادية عامة وخاصة، الأمر الذى ساهم فى وضع تجربة ممنهجة ومتطورة لتأهيل المرأة فى المؤسسات المختلفة للوصول إلى رأس المؤسسة وقيادتها.
وأنتجت هذه المجموعة من رموز المرأة التكنوقراط الأكثر فاعلية فى الاقتصاد برنامجاً لتأهيل السيدات للقيادة فى مختلف المجالات يدعى بـ«Mentor Ship»، الذى أنشئ بالتعاون مع المجلس القومى للمرأة والبنك المركزى المصرى، وتم تخريج 37 سيدة العام الماضى بعد فترة تدريبية دامت لعام كامل، تقوم فيها كل سيدة بتأهيل المتدربات على المهام المختلفة التى تقوم بها رئيسة المؤسسة أو القطاع، وإكسابهن المهارات اللازمة للقيادة.
وبجانب هذا البرنامج الذى يستهدف المنتدى التوسع فيه خلال الفترة المقبلة، يقوم أيضاً باختيار الـ50 سيدة الأكثر تأثيراً فى الاقتصاد بالقطاعات المختلفة كل عام، لإبراز النماذج المميزة التى يمكنها أن تكون فى موقع قيادة خلال الفترة المقبلة، ويخضع اختيارهن إلى لجنة نوعية تضم قيادات شركات وخبراء فى الاستدامة من مجموعة واسعة من القطاعات، بالإضافة إلى عدد من المعايير تتمثل فى توافق السيدة المرشحة مع أحد أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (SDG) والخاصة بالابتكار فى العمل والتعليم المتميز، فضلاً عن إشغال المترشحة لقائمة الخمسين منصباً وظيفياً أو مهنياً متميزاً، كما أنها لا بد أن تكون نموذجاً نسائياً وطنياً وصاحبة عطاء واضح، وحاصلة على مؤهل عالٍ، وأن تكون مقيمة داخل المحافظة المنتسبة إليها.
ويستهدف المنتدى من خلال هذه البرامج إحداث نقلة نوعية فى التصنيف الخاص بالمرأة المصرية على المستوى العالمى وزيادة تمثيلها فى المحافل الدولية باعتبارها إحدى القوى الفاعلة فى المجتمع المصرى والأفريقى بشكل عام، خاصة مع تحركاتها الأخيرة الناجحة فى ملف التسويق للمرأة المصرية الأفريقية وتبنيها العديد من المبادرات الفاعلة التى شهدت رعاية ودعماً من القيادة السياسية ممثلة فى فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسى فى ظل دعمه المطلق للمرأة المصرية.
كما يسعى إلى حشد وتفاعل آلاف السيدات التكنوقراط من كافة المحافظات لتطوير حلول ومشروعات تدعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة ورؤية مصر 2030، ومساهمة السيدات التكنوقراط فى اكتشاف رائدات للتغيير فى كافة المحافظات لدعم البرامج المعنية بالتنمية المستدامة ومجالات النمو، وتناول فرص الارتقاء بأعمال ومناصب السيدات فى المحافظات وتعزيز التأثير الشخصى بينهن، والعمل على تشكيل دوائر نسائية قوية قادرة على التواصل مع صناع القرار وإقرار سياسات مناصرة للمرأة التكنوقراط، بالإضافة إلى الربط بين الأجيال النسائية لتشكيل هوية للمرأة المصرية التكنوقراط تعتمد على الابتكار والحداثة مع الاتساق مع ثوابت وتاريخ المرأة المصرية.
وأتوقع أن يحقق منتدى «الخمسين سيدة» تأثيراً كبيراً فى تمكين وتوسيع دور المرأة التكنوقراط فى الاقتصاد الوطنى، وذلك بما يمتلكه من كوادر متميزة، وانتشار واسع، وشراكات كبيرة مع مؤسسات الدولة مثل المجلس القومى للمرأة والبنك المركزى والهيئة العامة للرقابة المالية، ودعم كامل من القيادة السياسية، وامتلاك كافة الإمكانات التى تساعده على دعم دور المرأة فى كافة المحافظات.
وأتمنى أن نرى خلال الفترة المقبلة العديد من المبادرات التى تستهدف ظهور وتأهيل المرأة التكنوقراط على وجه التحديد، وذلك لضمان نجاحهن فى المناصب والمشروعات التى يعملن بها.
وأرى أنه من الضرورى أن يشهد مجتمع الأعمال بعض التغيرات فى استراتيجيات العمل التى تراعى الاختلافات بين الرجل والمرأة، وتمكين العنصر النسائى فى الوظائف التى يمكن أن نستغل فيها الفروق والمهارات التى تتميز بها المرأة مقارنة بمهارات الرجل، والتى لا بد أن تتناسب مع طبيعة حياة المرأة.
فعلى سبيل المثال، تكرس النساء من ساعة إلى 5 ساعات أكثر من الرجال فى اليوم للعمل المنزلى غير مدفوع الأجر ورعاية الأطفال وأعمال رعاية الأسرة الأخرى، وساعة إلى 6 ساعات فى اليوم أقل من الرجال لأنشطة السوق، فماذا لو أقر قانون إلزام الشركات بتحديد ساعات عمل المرأة عند 6 ساعات يومياً حتى تتمكن من ممارسة حياتها العملية بجانب دورها كأم ومربية وزوجة، فأعتقد أن اقتطاع ساعتين فقط لإحداث التوازن لن يؤثر على حجم إنتاج المؤسسة، بل إنه يمكن أن يزيد من إنتاجية المرأة خلال الساعات الأقل نتيجة ممارستها لحياتها بشكل طبيعى.