«فليفل»: استهداف الأوروبيين لـ«عقل القارة السمراء» لا يقل بشاعة عن قهر سكانها
المؤتمر الصحفى لإطلاق كتاب «مختصر التاريخ العام لأفريقيا»
«لم يكتفِ الأوروبيون باستعمار دول القارة الأفريقية، وغيرها من بلاد العالم، بل حاولوا احتكار تاريخ الشعوب، ونسب وجود حضارة هذه الشعوب إليهم، وذلك عبر فرض نمط من الكتابة التاريخية امتلأ بألوان شتى من الأكاذيب والافتراءات التى استهدفت العقل الأفريقى على نحو لا يقل بشاعة عن ألوان القهر، والعنف، والتمييز التى عاشها الإنسان الأفريقى».
بهذه الكلمات بدأ الدكتور سيد فليفل، عضو مجلس النواب وعميد «معهد البحوث والدراسات الأفريقية» سابقاً والباحث الرئيسى فى إعداد «مختصر موسوعة تاريخ أفريقيا»، التمهيد لمناسبة إعادة مصر لإصدارها فى شكل مختصر.
ويوضح «فليفل»، فى مقدمة «الموسوعة»، أن النمط التاريخى الذى حاول الأوروبيون احتكار تاريخ «القارة» به، أدى لمحاولة إلحاق التاريخ «الأفريقى» بـ«الأوروبى»، ونسب بداية الحضارة الأفريقية إلى وجود المستعمرين الأوروبيين، وأسفر هذا عما اصطلح على تسميته بـ«القابلية للاستعمار».
وتابع الباحث أن «الحقيقة الساطعة التى نتجت عن (أوروبة) التاريخ الأفريقى هى استقرار حالة الاستتباع الأوروبى للعقل الأفريقى فى التفكير بالحياة، وهو الأمر الذى أدّى إلى استمرار التبعية الثقافية، والاقتصادية، والسياسية، على نحو جعل الاستقلال الوطنى فى بعض الأحيان خالياً من المفهوم الحقيقى للاستقلال، حيث واجه الأفارقة بعد الاستقلال مشكلة التعامل مع التاريخ على المستويين الوطنى داخل الدولة والقارى، بعد نشأة منظمة الوحدة الأفريقية فى عام 1963».
عضو «النواب»: كتاب التاريخ الوطنى يشكل فى كثير من الدول الأفريقية وجهاً آخر لمغالطات الدول الاستعمارية.. و«مختصر الموسوعة» خلاص من «التبعية» الأفريقية المزعومة
ويشير «فليفل» إلى أن «كتاب التاريخ الوطنى يشكل فى كثير من الدول الأفريقية وجهاً آخر من تاريخ الدول الاستعمارية السابقة، مما أفرز كثيراً من التطلعات المبرّرة لوضع تاريخ وطنى بأيدى مؤرخى الدولة للوصول إلى وضع منهاج تاريخى ملائم لمواطن حر، فى وطن حر، كان له تاريخ قبل المستعمر، ومن بعده، بل إنه شكل التحدى الحقيقى للوجود الاستعمارى عبر كفاحه، ومقاومته العسكرية حتى لو كانت قبلية، كما كانت استجابته الناضجة لمحاولات طمس الهوية الأفريقية عبر التمسّك بالجذور الثقافية والحضارية، بل والنفسية للإنسان الأفريقى».
ويستطرد الباحث: «ولم يستحِ كثير من مؤرخى الغرب من إهمال أفريقيا، وجحد مكانتها فى التاريخ الإنسانى، بل لقد اقترفوا جرم الفصل بين تاريخ الشعوب الأفريقية فى شمال القارة، التى امتلكت زمام الحضارة ردحاً طويلاً من الزمن فى العصور القديمة، وبين تاريخ الشعوب الأفريقية فى بقية أرجاء القارة، وذلك رغم امتداد الأصول الأولى للمصريين القدماء إلى عالم الصحراء الكبرى فى العصر المطير، حين كانت كتلة شمال ووسط وشرق وغرب القارة كياناً بشرياً متكاملاً». ويلفت إلى أن «الغرب رفض مجرد مناقشة وجود عشرات الملامح الأفريقية الواضحة فى حضارة واحدة امتدت عبر حوض النيل وشرق ووسط القارة، وكانت تلك معركة «المبدع الشيخ أنتاديوب»، كما سماه الباحث الرئيسى لـ«الموسوعة»، رغم تواتر الأدلة الداعمة لها.
وقال عميد «البحوث والدراسات الأفريقية» السابق، إن موسوعة «دراسة التاريخ» للمؤرخ البريطانى أرنولد توينبى، أنزلت القارة بشعوبها العديدة فى مكانة متدنية، منكراً جزءاً مهولاً من تاريخ أفريقيا والإنسانية قاطبة، مضيفاً: «ولا شك أن توينبى الذى شغل موقع مدير وحدة البحوث والتخطيط فى وزارة الخارجية البريطانية الاستعمارية كان يخدم موقعه هذا أكثر مما كان يخدم الحقيقة التاريخية الموضوعية».
وينوه «فليفل»، إلى أن مزاعم «توينبى» تضمّنت أن «الرجل الأبيض» بدأ تاريخ القارة فى أفريقيا، فى محاولة لإثبات أن أهلها لا يستطيعون أن يمضوا فى المستقبل بمفردهم دون المستعمر.
المؤرخ البريطانى الشهير «أرنولد توينبى» حاول إثبات أن الأفارقة لا يستطيعون «صناعة مستقبلهم» بعيداً عن المستعمر الأوروبى
وقال الباحث الرئيسى لإعداد «مختصر الموسوعة»، إن «التناقض الأوروبى» بلغ ذروته حين قام المستعمرون بتوظيف علوم السياسة والاجتماع والأنثروبولوجيا والآثار لخدمة أغراضهم الاستعمارية، وتبرير استمرارهم فى استنزاف ثروات القارة، وتسخير أبنائها، ولا شك أن هذه العلوم بينت للأوروبيين مدى ما وصل إليه الأفارقة من إبداع ثقافى وحضارى، بيد أن الأوروبيين استخدموا كل هذا العلم لاستمرار السيطرة، مع عدم الإقرار بالحقائق الساطعة التى كشفتها دراساتهم عن أفريقيا، وحضارتها قبل أن يصل الأوروبيون».
وعقب إنشاء «منظمة الوحدة الأفريقية»، وفق الباحث، ظهرت الحاجة إلى كتاب عام يجمع تاريخ القارة بين دفتيه، ويكون مرجعاً لأبنائها من القاهرة إلى كيب تاون، ومن السنغال إلى جيبوتى، وقد شكل هذا سنداً ثقافياً لحركة التحرّر الوطنى، ولحركة الوحدة الأفريقية كذلك، لكن ذلك كان أمراً شاقاً اقتضى البحث فى التراث الأفريقى ذاته، وفى التاريخ الشفوى، ومأثورات المجتمعات المروية، حتى لا يقع القائمون على عملية التأريخ فى أسر الوثائق الاستعمارية التى تدور حول الرجل الأبيض، ودوره فى القارة ونسبه تاريخها، والتعرّض الإجبارى للحكام الاستعماريين، وليس للقيادات الأفريقية التى تقاومهم، ولا للشعوب الأفريقية التى حفّزتهم على المقاومة.
ويؤكد النائب أنه «باختصار، كان الخلاص من التبعية التاريخية المزعومة يقتضى مصدراً أفريقياً جديداً بمثل ما يقتضى مؤرخاً أفريقياً جديداً، أى أن أفريقيا كانت فى هذا الصدد بحاجة إلى البحث عن تأصيل تاريخها، ونسبته إلى نفسها، والعودة إلى ذاتها خلاصاً من المستعمر، وتوقاً إلى الاستقرار، وكان هذا هو صميم الإصرار على استعادة الهوية الأفريقية». ويعتبر «فليفل» أن «رئيس اليونيسكو الأفريقى الهمام»، محمد مختار إمبو، نجح فى حشد جمع كبير من مؤرخى القارة، ومن خارجها لإعداد كتاب تاريخ أفريقيا العام، وعهد إلى المؤرخ البوركينى جوزيف زيربو، للإشراف عليه وتحريره، وظهر هذا العمل فى طبعته الأولى عام 1981، لافتاً إلى أن هذا العمل كان متميزاً للحد الذى وصفه بعض المؤرخين الأوروبيين بأنه «لا يرسى فقط تاريخاً عاماً شاملاً للقارة الأفريقية للمرة الأولى، وبأقلام مؤرخيها، وإنما أيضاً وضع الأساس للبحث المنهجى المنضبط فى المصادر الأفريقية، معطياً الاعتبار الكافى للرواية الشفوية الأفريقية».
ويضيف: «الأكثر من ذلك أن المؤرخ البوركينى قدم رؤية منهجية تتضاءل إلى جوارها رؤى الموسوعات التاريخية الاستعمارية، التى اختصت بالقارة الأفريقية، بما فى ذلك دراستى جامعتى أوكسفورد وكامبريدج عن تاريخ أفريقيا، رغم مشاركة بعض مؤرخيهما بكتابة فصول من تاريخ أفريقيا العام». ومن المثير للدهشة أن الرئيس الليبى الراحل معمر القذافى كان يرعى فى ثمانينات القرن الماضى عملية تعريب هذا الكتاب، حتى سبقت الترجمة العربية صدور الكتاب الأصلى، لافتاً إلى أن العمل فى الكتاب بدأ عام 1965.
ويوضح الباحث أن لجنة أفريقيا بـ«المركز القومى للترجمة» التابع لوزارة الثقافة المصرية برئاسة حلمى شعراوى، خبير الشئون الأفريقية، وافقت على مقترح تقدم به «فليفل»، لتوفير هذا العمل فى طبعة ملخصة شعبية للقارئ العربى، لنشر الثقافة الأفريقية بين «الأفارقة العرب»، وتأكيد الرابطة الأخوية والمصيرية بين أبناء القارة».
وجاءت الكتب الأربعة، التى هى ملخص لـ«الموسوعة»، فى 3 آلاف و236 صفحة، وقد رُوعيت فيها الموضوعية فى اختيار الفصول، مع حرص «اليونيسكو» على عدم إحداث أى تغيير فى نصوص «الطبعة الأصلية».
ويواصل الباحث أن «العلم والمعرفة الصحيحة بتاريخ أفريقيا، هما الطريق إلى الوعى بالروابط التى توحد بين الأفريقيين من ناحية، وبين أفريقيا وسائر القارات من ناحية أخرى، وإن تيسر إلى حد بعيد التفاهم بين شعوب الأرض، بل إن نشر المعرفة بتراث ثقافى هو مملوك للإنسانية، وهو التراث الذى لا ينكره إلا جاحد».
ويردف: «إن أفريقيا لا تزال تحتاج لأن تكتب تاريخاً معاصراً يضمن لها مكاناً تحت الشمس، بعد عصور حاول البعض فيها أن يكتب لها تاريخها وفق رؤاه ومصالحه، وهذا أمر أبعد منالاً من التسجيل التاريخى الذى لا نزال بحاجة إليه، خاصة أن وظيفة التاريخ كعلم اجتماعى تتجاوز اختصاصه بالزمن الماضى، إلى حقيقة كونه صورة الذات فى هذا الماضى، وميدان ومعمل التجريب، ومصدر الخبرة الإنسانية التى تضىء الواقع المعيش وتفتح الباب لاستشراف المستقبل، والبحث للشعوب عن مكان فيه، وهذه هى الخبرة التاريخية التى تقدّمها موسوعة تاريخ أفريقيا العام».