الأوراق المخفية.. «كنز الأقباط»
«الوطن» تواصل فتح ملف التراث القبطى (الحلقة الرابعة)
الأوراق المخفية.. «كنز الأقباط»
أوراق ورقوق طويت ووضعت داخل «جِرَارٌ» ودفنت فى الصحراء، أو كدست داخل غرف مغلقة فى الأديرة والكنائس، وبعضها أخفى داخل المنازل، تحوى شتى المعارف الإنسانية، لم يعرف العالم عن هذا الكنز «المطموس» لعوامل شتى، سوى نحو خمسة بالمائة منه، وما زال الباقى من أوراقه مخفياً.
فى تلك الحلقة من رحلتنا لإعادة اكتشاف التراث القبطى، واصلنا المسير فى دروب برارى «شيهيت»، نتلمس تاريخ السابقين الأولين، نستمع للباحثين والدارسين والمسئولين، نفتش عن الكتابات القبطية المجهولة لنا التى تحوى تاريخاً غير مروى ولا مكتوب حتى الآن بالشكل اللائق لتاريخ المصريين.
هناك 700 باحث متخصص في الدراسات القبطية فقط على مستوى العالم
يدفعنا سؤال «كيف لتاريخ امتد على مدى ألفى عام لا ينقب فيه سوى 700 باحث فقط فى العالم كله؟»، لنكتشف فى رحلة البحث عن الإجابة أن كثيراً من المخطوطات القبطية ليست فى حوزة مؤسسات رسمية، وأن الأديرة والكنائس الأثرية تتعامل مع المخطوطات على أنها ثروة تدر عليها دخلاً وسبب شهرة لها، ولذا يخفونها داخل الغرف المغلقة دون قدرة على صيانتها علمياً.
«المخطوطات» تحوي تاريخاً يكشف وحدة المصريين ووطنيتهم بعيداً عن الدين
تهادت إلينا نسمات الهواء فى صحراء «شيهيت» التى تعرف اليوم بمنطقة وادى النطرون، كان الهدوء يخيم على الدير الأثرى الذى واصلنا المسير داخله حتى تكاد تسمع صوت أغصان الأشجار الوارفة التى يحركها الهواء، وجدنا دليلنا الراهب القبطى صاحب الاسم المستعار «الأب كيرلس»، مأخوذين بجمال الدير الخلاب، فتحدث عن أن مصر التى تباركت بزيارة المسيح والسيدة العذراء حتى صارت «أراضيها مقدسة»، تضم بين جوانبها أديرة أخرى كثيرة يسحرك جمال عمارتها، منها دير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر، وهو أول دير قبطى أنشئ فى العالم أواخر القرن الرابع الميلادى، وهو عبارة عن تحفة معمارية محفورة فى سفح جبل القلزم بسلسلة جبال الجلالة القبلية بالبحر الأحمر، كذلك هناك دير الأنبا بيشاى والأنبا بيجول المعروف بـ«الدير الأحمر» الذى يقع غرب سوهاج بحوالى 12 كيلومتراً، ويبعد عن دير الأنبا شنودة المعروف بـ«الدير الأبيض»، بحوالى 4 كيلومترات تقريباً، ويرجع بناؤه إلى القرن الرابع الميلادى.
العمارة القبطية تجلت في «دير الأنبا أنطونيوس» المحفور في سفح جبل بالبحر الأحمر و«الدير الأحمر» أحد ثلاثة معالم أثرية متبقية من العمارة البيزنطية بالعالم
و«الدير الأحمر» الذى يحظى بشهرة عالمية واسعة مقام خلف سور أثرى عال، ترجع أهميته التاريخية لكونه واحداً من ثلاثة معالم أثرية متبقية من العمارة البيزنطية على مستوى العالم، أولها كنيسة «سان فيتالى» فى مدينة رافينا الإيطالية، والثانية كاتدرائية «آيا صوفيا» فى إسطنبول التركية التى تحولت لمسجد مؤخراً، وهناك من يقول إن الدير مقام على معبد فرعونى، وآخرون يشيرون إلى أن بناءه تم بحجارة أتت من معبد فرعونى، مدللين على ذلك بالنقوشات الفرعونية على جدران الكنيسة الأثرية داخله المبنية بالجرانيت الأحمر الذى اعتاد الفراعنة استخدامه فى بناء المعابد.
«ساويرس»: مخطوطات التراث القبطي تحوي بطن مصر وتاريخها لأن الجزء التاريخي لم يتم تصويره أو دراسته من قبل
ويقول الدكتور إبراهيم ساويرس، أستاذ اللغة القبطية بكلية الآثار جامعة سوهاج، والحاصل على الدكتوراه فى الدراسات القبطية من جامعة ليدن بهولندا، لـ«الوطن»: «كل هذا التراث الحضارى وما يحويه لا يعمل فى حقله سوى 700 شخص فقط متخصصين فى الدراسات القبطية، طبقاً للاتحاد الدولى للدراسات القبطية International Association for Coptic Studies، وهو الاتحاد المسئول عن الدراسات القبطية فى العالم، وله فرع بمصر فى جمعية الآثار القبطية بمنطقة العباسية بالقاهرة، وتأسس فى مصر فى سبعينات القرن الماضى وشاركت فى تأسيسه الجمعية ذاتها وعائلة بطرس غالى، وهو عبارة عن منظمة غير ربحية تهدف إلى تشجيع والمساهمة فى تقدم جميع جوانب الدراسات القبطية، وتعزيز التعاون الدولى بين الأفراد وكذلك بين المنظمات والمؤسسات، وهو الذى يصدر مجلة Journal of Coptic Studies، التى تعد أهم مجلة متخصصة فى العالم ويتنافس كبار الباحثين على النشر بها، ويقوم الاتحاد على اشتراكات وتبرعات أعضائه، والأعضاء المصريين فيه عددهم فى تزايد مستمر».
الإفراج عن المخطوطات القبطية بطريقة تكنولوجية سيدفع تخصص الدراسات القبطية 100 عام للأمام
اللافت أن هذا التراث القبطى الذى يعد كنزاً ثقافياً للعالم كله، ما زالت حتى اليوم أوراقه مخفية، فهى إما مطوية ومكدسة داخل المتاحف والمكتبات العالمية التى تسرب إليها، أو داخل الكنائس والأديرة القبطية، ويضيف «ساويرس»: «نحن نواجه مشكلة مع عدم إتاحة التراث للباحثين للاطلاع والبحث والدراسة، وخاصة تلك المخطوطات الموجودة فى المتحف القبطى والدار البطريركية للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التى تمر بروتين معقد للاطلاع عليها، رغم أنه يمكن الاستفادة من التكنولوجيا وإتاحتها عبر وسائل تكنولوجية حديثة كما تفعل مكتبات العالم عبر رسوم رمزية، فبسبب ذلك استفادتنا من التراث القبطى تكاد تكون صفراً، لأنه إن تم الإفراج عن المخطوطات القبطية بطريقة تكنولوجية أظن أن تخصص الدراسات القبطية سيندفع 100 عام للأمام فى عام واحد، وسيجذب مزيداً من الباحثين من العالم، وسيخرج مادة تشبع العالم من الدراسة، وبدلاً من أن يضم الاتحاد الدولى للدراسات القبطية 700 باحث سيصيرون 7 آلاف باحث».
البابا تواضروس يكلف «مؤسسة مارمرقس» بإنشاء وحدة علمية لحفظ التراث القبطي وعضو بالمؤسسة يشكو: «لم نعمل بعد لعدم إتاحة المخطوطات لنا لعوامل مجهولة»
وبحسب البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، فإن إمكانية الاطلاع على المخطوطات تستلزم ملء استمارة بالكنيسة فيها اسم الباحث وسبب دراسته ويحصل على موافقة من البابا، أما بالنسبة للمتحف القبطى، فأكدت كاميليا جرجس، مديرة المتحف وأمينة المخطوطات، لـ«الوطن»، أن المتحف يرحب بالباحثين والدارسين خاصة أن عدداً من المخطوطات لم تتم دراسته وبحثه، وأنه يمكن اطلاع الباحثين على المخطوطات عبر عدة خطوات تتمثل فى تقديم الباحث طلباً لمديرة المتحف يتم رفعه لقطاع المتاحف التى تشكل لجنة كل فترة لدراسة الطلبات والموافقة عليها، ثم يحضر الباحث ويتم عرض المخطوطة له بوجود مرمم للحفاظ على المخطوطة أثناء الدراسة، مشيرة إلى أن المتحف يسعى بالفعل لرقمنة المخطوطات ولكن الأمر مكلف جداً ويحتاج أموالاً طائلة، لذا يسعى المتحف للحصول على أى مساعدة لإتمام هذا المشروع.
20 أو 30% فقط من التراث القبطي في الكنائس والأديرة الأثرية والباقي في أيدي الأسر
ويكشف الدكتور لؤى سعيد، مدير مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية، لـ«الوطن»، أن كثيراً من المخطوطات القبطية ليست فى حوزة مؤسسات رسمية يمكن التعامل معها والتأكد من سلامة وصون هذا التراث الحضارى، ولكن الجزء الأكبر منه فى حوزة عائلات وأسر قبطية، لا يعلم عنها أحد شيئاً، قائلاً: «كثير من المخطوطات القبطية لا تمتلكها الكنائس والأديرة الأثرية، بل كثير من الأسر والعائلات القبطية وخاصة فى القرى والأقاليم مثل الصعيد تمتلك كميات كبيرة من المخطوطات ولا يعلم أحد عنها شيئاً، والعالم لم يستطع دراسة وتحقيق سوى ما لا يزيد على 5 بالمائة من التراث القبطى، وما بين 20 أو 30 بالمائة من كنز التراث القبطى فى الكنائس والأديرة الأثرية مقارنة بما يوجد فى أيدى الأسر، ونحن مطمئنون على حفاظ تلك الأسر والعائلات على تلك المخطوطات ولكن نخشى من عدم قدرتهم على صيانتها وحمايتها من البكتيريا والفطريات».
الدكتور لؤى سعيد كشف كذلك عن أن الأديرة القبطية والكنائس الأثرية تتعامل مع المخطوطات على أنها ثروة تدر عليها دخلاً وسبب شهرة لها تزيد من الزيارات إليها، ولذا يخفونها داخل الحجرات مفتقدين القدرة العلمية على صيانتها باستثناء ديرَى «مارمينا» بالإسكندرية، و«أبومقار» فى وادى النطرون، اللذين يمتلكان الأجهزة والقدرات البشرية للتعامل مع المخطوطات القبطية وصيانتها، قائلاً: «لا تريد الأديرة أن يتم تحويل مخطوطاتها إلى نسخ حديثة لإتاحتها للباحثين لأنهم يظنون أن قيمة أى دير فى مخطوطاته التى تجلب إليه الزوار وهذا مفهوم شائع عند الأديرة والكنائس الأثرية، لذا لم تتم دراسة وحصر تلك المخطوطات وصيانتها بالشكل الكافى، فنحن نريد قاعدة بيانات للمخطوطات وعلى الأقل نريد صيانتها وحفظها وندرب الرهبان والكهنة على كيفية التعامل مع التراث والآثار القبطية والحفاظ عليها».
وأوضح «سعيد» أنه اقترح هذا على الأنبا إبيفانيوس، رئيس دير أبومقار بوادى النطرون، الذى قتل عام 2018م والذى كان يشغل عضوية مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية، مشيراً إلى أن الأسقف الراحل وافق وكان يتم الترتيب لهذا الأمر والتحرك فى محافظات مصر لتنفيذها قبل مقتله الذى تم على يد راهبين بالدير بوقت قصير، موضحاً أن تلك الفكرة ما زالت مطروحة ويمكن للكنيسة الاستعانة بخبرات مكتبة الإسكندرية فى هذا الأمر.
بينما قلل الدكتور إبراهيم ساويرس، من قيمة المخطوطات التى تمتلكها العائلات القبطية، قائلاً: «ما تمتلكه العائلات ليس له قيمة وهو موجود فى منازل الأقباط كإرث شخصى ومعظمه متعلق بالنصوص المستخدمة فى الصلوات الكنسية، والقانون المصرى لا يجرم ذلك، وإذا كنا نريد جمع المخطوطات وحصرها لا يتم العمل عليها بقانون ولكن عبر مشروع قومى تشترك فيه الكنيسة بسلطتها الدينية عن طريق قيام كهنة الكنائس والأساقفة فى كل منطقة بحصر ما لدى الأقباط فى منازلهم من مخطوطات، ولكن نحن نتكلم عن مخطوطات كثيرة عدداً ولكن لن تضيف شيئاً».
وأضاف «ساويرس»: «هناك أديرة فيها مخطوطات مهملة، حيث لا تمتلك معامل الترميم ومحفوظة بدون أدنى اهتمام، ونتمنى إطلاق مشروع قومى أو دينى وليس بطريقة قانون هات لاحبسك ولكن بطرق مختلفة، ونتمنى إتاحة تلك المخطوطات بوسائل تكنولوجية لتكتب سطراً جديداً فى تاريخ مصر».
«دار الكتب»: لم يتقدم أحد لتسجيل المخطوطات طبقاً للقانون
وفى الوقت الذى يبحث فيه الباحثون عن الأوراق المخفية فى المخطوطات القبطية التى لا يوجد عدد أو حصر بها، ساهمت بعض العائلات بطريقة أو بأخرى فيما يعرف بـ«تجارة المخطوطات» حتى إنها أصبحت مؤخراً تجارة رائجة على مواقع التواصل الاجتماعى. وبينما كانت تلك المخطوطات مثل الآثار، مباح بيعها والتجارة فيها فى مصر حتى منتصف القرن العشرين، إلا أن التصرف فيها صار مجرَّماً وخاصة مع صدور القانون رقم 8 لسنة 2009م الخاص بحماية المخطوطات، الذى نصَّ على حظر إخراج المخطوطات من مصر إلا للترميم أو العرض وبناء على إذن كتابى من الهيئة العامة لدار الكتب، وتضمن القانون عقوبات على المخالفين تشمل «غرامة لا تزيد على 200 ألف جنيه، والحبس مدة لا تقل عن سنة».
وتم تعديل هذا القانون عام 2018م، بسبب كثرة الشكاوى بشأن الأحراز والضبطيات الجمركية التى تحتوى على مخطوطات نادرة وإيداعها وزارة الآثار طبقاً لأحكام قانون حماية الآثار الصادر بالقانون رقم 117 لسنة 1983م والمعدل بالقانون رقم 3 لسنة 2010م والتى تذهب المخطوطات على أثره إلى وزارة الآثار بطريقة غير منطقية، وألزم التعديل القانونى جميع أجهزة الدولة التى تضبط مخطوطاً لأى سبب أو تعثر عليه بإخطار الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية خلال 30 يوماً من تاريخ الضبط أو العثور على المخطوط باعتبارها الهيئة الوحيدة المعنية بالمخطوطات.
إلا أنه بحسب الدكتورة نيفين محمد موسى، رئيسة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، لم يتقدم أى شخص للدار بتسجيل المخطوطات التى يحتفظون بها فى منازلهم طبقاً للقانون، مشيرة، فى تصريحات لـ«الوطن»، إلى أن المؤانئ والمطارات ضبطت خلال الفترة الماضية كميات كبيرة من المخطوطات والكتب النادرة المهربة وذلك بحسب الإخطارات التى ترد لدار الكتب لتشكيل لجان لفحص المضبوطات، لافتة إلى أنه لا يوجد حصر دقيق لديها حول تلك المضبوطات.
وفى 1998م، تم تأسيس «مؤسسة القديس مرقس لدراسات التاريخ والتراث القبطى»، وكلفها وقتها البابا الراحل شنودة الثالث، البطريرك الـ117 للكنيسة القبطية، بالبحث وجمع وتوثيق ونشر المعلومات عن التاريخ القبطى من وصول المسيحية إلى مصر حتى اليوم، وبعد وصول البابا تواضروس الثانى، لسدة كرسى مارمرقس الرسول فى مصر، شجَّع عملها الأكاديمى، وكلَّفها فى 2013م بالحفاظ على التراث المعمارى والفنى القبطى بكل الأديرة والكنائس وإبقاء عناصره المعمارية دون تحديث، مع توثيق فورى لكل ما يكتشف فى الحفائر أو أثناء عمليات الترميم، وتأسيس مكتبة إلكترونية خاصة بالمخطوطات المحفوظة فى الأديرة والكنائس والمتاحف والمكتبات العالمية فى مصر والخارج للحفاظ على التراث والتاريخ والحضارة القبطية بكل الوسائل، وفى أكتوبر 2019م كلف البابا المؤسسة ذاتها بإنشاء وحدة علمية لحفظ التراث القبطى تعتنى بكل نوعياته، مع إعداد كوادر دراسية على مستوى علمى متخصص فى دراسة وصيانة وحفظ مقتنيات هذا التراث، وتأهيله لخدمة العلماء والباحثين والمهتمين بمثل هذه الدراسات، ويكون مجلس إدارة المؤسسة مسئولاً عن هذه الوحدة مالياً وإدارياً.
وأوضح الدكتور إبراهيم ساويرس، الذى يشغل منصب عضو مؤسسة مارمرقس، أن المؤسسة فى أيام البابا شنودة قامت بترميم المخطوطات داخل أديرة وادى النطرون فى مجموعات أصغر عدداً، وأسند البابا تواضروس للمؤسسة مشروعاً جديداً فى 2019م، إلا أنه حتى اليوم لم يبدأ بعد العمل فى المخطوطات التى لم يُتح لباحثى المؤسسة الاطلاع عليها حتى الآن لعوامل مجهولة بالنسبة له رغم أن المؤسسة تمتلك القدرات والموارد البشرية التى تستطيع العمل على رقمنة المخطوطات التى بحوزة الكنيسة.
«الناس تعادى ما تجهل، فأنهوا العداوة بالعلم»، قالها الراهب كيرلس ونحن نسير باتجاه مكتبة الدير فى ممر عريض تصطف على جانبيه جدران المبانى الضخمة التى تتوسطها نقوش قديمة تشعرك بأنها جدران لمعبد فرعونى، مشيراً إلى أنه خلف أسوار الدير العالية توجد مزارع الدير التى يعمل بها عمال مسلمون ومسيحيون، قائلاً: «الجميع يتحدث عن التعايش والمواطنة ولا يعلمون أن الموالد المسيحية يُقبل عليها المسلمون كالمسيحيين تماماً، ويحوى التراث القبطى فلكلوراً شعبياً متجانساً منذ أن دخل الإسلام مصر فى القرن السابع الميلادى، بل إن لجنة التراث فى المنظمة الإسلامية للتراث والثقافة (الإيسيسكو) أدرجت على قوائمها أديرة قبطية لحمايتها وصيانتها مثل (دير أبومينا) بالإسكندرية، و(دير سانت كاترين) بجنوب سيناء، و(الدير الأحمر) فى سوهاج.
ويضيف الراهب: «إذا كانت مخطوطات (الجنيزة) التى عثر عليها فى معبد بن عذرا اليهودى بمنطقة مصر القديمة، أحدثت ثورة فى فهم التاريخ اليهودى وألقت الضوء على ألف عام من الحياة اليهودية النابضة بالحياة فى قلب العالم الإسلامى، وغيَّرت الصورة المغلوطة عن المصريين وأظهرت التسامح والتعايش فى الوطن، فإن التراث القبطى المهمل لعوامل متعددة، يحوى تاريخاً غير مروى ولا مكتوب حتى الآن بالشكل اللائق لتاريخ المصريين الذى يكشف وحدتهم ووطنيتهم بعيداً عن الدين والمعتقد، بل ويرسم صورة واقعية للتسامح والتعايش بين المسلمين والمسيحيين، وبحسب عدد من الباحثين، فإن الاهتمام بدراسة وبحث هذا التراث سيعيد كتابة التاريخ من جديد».
ويقول الدكتور لؤى سعيد: «ما قبل الإسلام لم تكن مصر مسيحية 100% ولكن كان المسيحيون يشكلون نسبة 60%، والباقى ما اصطلح عليه فى العصور المسيحية بلفظ (الوثنيين)، وكانت الإسكندرية منارة للعلم والمعرفة وجمعت خليطاً من الأجانب إلى جانب المصريين، وامتزجت الحقبة القبطية بالحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية، وبعد ظهور المسيحية لعبت كنيسة مصر وكرسى الإسكندرية دوراً وطنياً تعدى حدود الدين والمعتقد وكانت تقاوم الاحتلال الرومانى، وكان المصريون غير المسيحيين ينظرون إليها بأنها مصرية ويلجأون إليها، حتى إن 20 ألف وثنى احتموا بدير الأنبا شنودة فى سوهاج، من اضطهاد السلطة المسيحية البيزنطية».
ويقول الدكتور إبراهيم ساويرس: «مخطوطات التراث القبطى تحوى بطن مصر وتاريخها، لأن الجزء التاريخى لم يتم تصويره أو دراسته، ونحن نعلم عنه من الفهارس التى أعدت مؤخراً ولكن لا نعلم ما بداخل تلك المخطوطات، وإن كنا نظن أن بها مادة مهمة جداً تخص تاريخ مصر، فمثلاً الأقباط حينما كتبوا تاريخ بطاركة الكنيسة لم يكتبوا التاريخ بصيغته الدينية بل كتبوا تاريخ مصر داخل تاريخ الكنيسة، فحينما تقرأ تاريخ صلاح الدين الأيوبى داخل كتاب تاريخ البطاركة لـ(ساويرس بن المقفع)، تقرأ فيه تاريخ صلاح الدين أكثر من أن تقرأ تاريخ البطاركة الذين كانوا موجودين، وذلك بسبب ارتباط الطائفة بالحاكم أكثر من ارتباطها بالبطريرك، لأن الحاكم يستطيع أن يأخذ قرارات تخص الأحوال الشخصية والضرائب وغيرها من الأمور أهم من قرارات البطريرك فى أيامه».
ويضيف «ساويرس»: «التراث القبطى غنى، به نصوص عقود زواج وطلاق ورهن وضرائب وحياة يومية، وتفاصيل علاقة المسلمين والمسيحيين بعد دخول العرب، بل إن هذا التاريخ الذى تحتويه تلك المخطوطات أكبر معبر عن التعايش والتسامح فى مصر فنجد التسامح الإسلامى المسيحى فى وثائق الضرائب بالصعيد من القرن السابع الميلادى، ونجد ما كتبه المسيحيون بأيديهم من القرون الأولى عن عدم وجود ما يشاع عن الجزية أو فرض الضرائب عليهم من قبل المسلمين، ولكن نريد المساحة والقراءة لنكتب لكم جزءاً من تاريخنا لا نعلمه، ولا يصح أن الأجانب هم من يكتبون لنا تاريخنا للأبد».
ويشير الراهب القمص بيجول السريانى، المسئول السابق عن مكتبة المخطوطات بدير السريان فى وادى النطرون، إلى أن «رقوق الجلد» التى كان يكتب عليها الكتَّاب قديماً كان يتم استخدامها أكثر من مرة، وأنه فى الوقت الذى تحتوى مكتبات الأديرة مخطوطات أغلبها دينى إلا أن الأجهزة الحديثة أظهرت لنا أن بعض تلك المخطوطات يحوى نسيجها مخطوطات أخرى مسحت ليكتب عليها، منها كتابات فلسفية لأرسطو وسقراط وغيرهما.
وأضاف «بيجول»، لـ«الوطن»، أن معظم المخطوطات القبطية التى فى حوزة الكنيسة والأديرة تمت الاستفادة منها 100% ولكن يتبقى نشرها للعامة الذى يقف أمام إتمامه الخوف المستتر من «التبشير» بالمسيحية.
داخل الدير الأثرى لا وجود لرفاهيات الأجهزة التكنولوجية مثل «مكيفات الهواء» التى استبدلت بـ«المراوح» من أجل تحريك بخور الصلوات المسيحية وآثار الشموع لخارجها حتى لا تترك بقايا عضوية تترسب على الجدران وتؤثر على الرسومات الجدارية، كما توجد فى كنائسه نوافذ واقية من الأشعة فوق البنفسجية، فى محاولة للالتزام بتعليمات الأثريين بمنع تغيير درجات الحرارة والرطوبة.
وتسعى وزارة الآثار لإدراج أديرة وادى النطرون ضمن التراث العالمى لليونسكو، إلا أن تلك الخطوة تقابَل برفض من الكنيسة التى تخشى أن يتسبب القرار فى سلب هدوء الأديرة ومنح إدارتها لوزارات تنفيذية.